حمدي عبد الرحيم*
وما فلسطين إلا أطفال يرشقون الدبابات بالحجارة وملثمون يصوبون بنادقهم القديمة تجاه الطائرات وسيارات إسعاف مكدسة بالجرحى وحرائق مشتعلة في كل مكان واستشهاديون يفجرون أنفسهم في المشهد كله.
هذه هي فلسطين كما نشاهدها مساء كل يوم في نشرات أخبار التليفزيون ونطالعها صباح كل يوم على صفحات الجرائد.
أما في رواية الفنان الكبير علاء الديب الجديدة «أيام وردية» فهناك فلسطين أخرى سرية، تضغط بجبروت حضورها وبقسوة جمالها وبطغيان مأساتها على قلب بطل الرواية «أمين الألفي» الذي هو «أخصائي اجتماعي بمدرسة المنصورة الثانوية، مفكر عربي قديم، مصلح اجتماعي سابق، مترجم وكاتب ولكنه – أساساً – مفكر عربي وحيد، كثير الأقنعة، بعد طول ازدواج وظلم صار فقط لحظات مفتتة وماضياً يتوارى من نفسه، صار ملاحاً قديماً رابضاً على الشاطئ مهزوماً في الليل والنهار» ذلكم هو أمين الألفي الذي كان مؤمناً ثم جاء الخامس من يونيو 1967 ففتت إيمانه وبعثر يقينه.
خرج الألفي بجروحه من القاهرة – التي أصبح لا يحتملها إلى المنصورة مقنعاً نفسه أنه بالإمكان البدء من أول وجديد، وهناك اخترع لنفسه عملاً «أخصائي اجتماعي» فكر وكتب ونسق وألقى محاضرات وأقام مؤتمرات ونظم ندوات لكي يبدأ هو ومن معه من أول وجديد، واحتمى بأحضان زوجته «مس شادن البيلي» مدرسة الإنجليزي وبضحكات ولديه «بهجت وبسمة» لكن ويوماً بعد يوم تتكشف أمام الألفي الحقيقة عارية تماماً، إن ما يصنعه كل ما سيصنعه هو حرث في البحر ونفخ في قربة مقطوعة. مدرسته هي هي، بل إنها كل يوم تصبح أسوأ: فصول قبيحة وتلاميذ مكدسون ومدرسون أصابهم سعار الدروس الخصوصية وإدارة فاسدة من رأسها حتى أخمصي قدميها. وشادن البيلي التي كانت حقل حنطة يعد بالخصوبة والأمان والجمال أصبحت أرضاً خربة، لقد استولت عليها «الحاجة زينب» وما أدراك ما الحاجة زينب، إنها في الأصل «زيزي» امرأة من نوع غريب، كاملة التسليح، في الحجم والجمال والذهب. كتاب الله، حجابها الأنيق وذكاؤها الخارق أمور جعلت لها في المنصورة نفوذاً بالغاً، بعد سنوات إعارتها هي وزوجها صنعا معاً ثروة وفعلا معاً كثيراً من أعمال الخير، وأعمال الشر التي تجبرك عليها الحياة العصرية والحاجة زينب أو «زيزي» دائماً في زيارة وتجارة هي دائماً مشغولة متعددة المقاصد، فعلى الرغم من أنها تؤكد أنها لا توافق على «أبعديات» الدروس الخصوصية التي أقامها الزملاء الأجلاء إلا أنها تأتي لكي تتحدث معهم في صفقات ومصالح متبادلة، مع كل واحد منهم لها أسلوب وطريقة»
هذه هي الحاجة «زيزي» كما برع علاء الديب في تقديمها كنوع من أنواع «الإسلام التجاري» الذي شيد السادات عمارته وأعلى شأنه، مع الحاجة زيزي لا تتكلم عن «الروح والحقيقة والقلب والاقتناع والطهر» فكل هذه الأشياء خارج وصفة «الإسلام التجاري» حيث الأمور «خد وهات» و«بيزنس إذ بيزنس».
ولأن «هداية العصاة» مشروع قومي من مشاريع الحاجة زيزي قد اقتحمت بيت الألفي وحاصرت زوجته شادن البيلي حتى ابتعدت عن زوجها تماماً لم يقف الألفي مكتوف اليدين أمام هذا الغزو، بل «خاض من أجل الإبقاء على زوجته أهوالاً، دخل في خطط طويلة ومؤلمة، دخل في نقاشات عقيمة، داس في أحلام مجهضة، وأفكار مرتبكة، ومزايدات مزيفة، الكلام أو النقاش صار بعد الأيام الأولى مكرراً مرهقاً بشكل لا يطاق، يراقب رفضها له وهو يتصاعد فيختلط عنده الغضب بالإشفاق باليأس من كل شيء.
يراقب كيف تبنى بينهما هذه الجدران والسدود، ذابت كل المعاني والقيم التي ظن أنه أقام عليها علاقته بشادن، والأولاد، ليس حوله من يكلمه في الموضوع أو يأخذ رأيه، الجميع حوله يرى أن ما يحدث أمر طبيعي، بل هو مرغوب فيه ومطلوب».
ها قد خسر الألفي إيمانه القديم بعد يونيو وزوجته بعد سيادة «الإسلام التجاري» وما عاد له غير فلسطين.
كانت فلسطين في عقل أمين الألفي في هذه الأيام وقبلها وبعدها رمزاً، فكرة مسيطرة يقيس بها مواقع الناس، «عاملاً مساعداً» يكشف به الصدق من الكذب.
هو قد خلع نفسه من السياسة، أو هي التي خلعته لكن بقيت فلسطين السليبة معنى يسافر وراءه واسماً يبحث عنه في دواوين الشعراء، وكلمات الصادقين، كوى بها جراح يونيو، وعيش الفقراء حوله والمطحونين، ولا طاب جرح ولا نفع دواء سمع أحد المدرسين يشير إليه ساخراً «بتاع فلسطين».
ما الذي بقي للألفي؟ تقريباً لا شيء اللهم إلا شجرة عشقها كان يبثها همومه ثم اللاشيء. حياة كهذه تقود إما إلى الجنون أو الانتحار، ولكن صديقاً وطبيباً مسيحياً أنقذه من الحالتين وقاده إلى مصحة نفسية وهناك عاش الألفي أيامه الوردية، هل رأيتم كم هو مخادع هذا الفنان الكبير علاء الديب؟
الأيام الوردية هي تلك التي عاشها الألفي محتمياً بجدران المصحة ونعم الأيام ونعم الورد!!
ولكن إلى أين يمضى هارباً من دمه؟؟ في المصحة «يسمع التليفزيون ولا يراه، يستوقف حالته الراهنة مصطلح الـ13% والـ11% لا يدرك علاقة هذه النسب المئوية بالوطن، يرى بعين خياله فلسطين تمزق بسكين باردة.
انفردت به وهو راقد أهوال قضية فلسطين. ماذا يفهم؟ وماذا يصدق؟ وما كل هذه الكركبة والقدرة على اختراع الأكاذيب؟ الناس تركوه وحده مع ملايين الأحلام والأوهام والأشعار الميتة. هل يتذكر الأحياء أم الشهداء، أم يكتفي بتأمل حطام ذاته؟ هل هي قضية عامة، سياسية قومية أم هي قد صارت بالنسبة له قضية شخصية متورطًا فيها منذ الأزل؟».
وفي المصحة يلتقي الألفي وجها لوجه مع فلسطين واسمها هذه المرة «عفاف» فتاة فلسطينية اغتصبوها أثناء الحرب الأهلية في لبنان، ولأنها فلسطين فقد تمنى الألفي «أن يجمع لها كل لحظات السعادة والوجود المتكامل التي عرفها في حياته وأن ينثرها تحت قدميها قرباناً وهدية خالصة، علها تداوي التعاسة والشقاء اللذين عاشتهما».
وعندما تتمالك عفاف نفسها قليلاً تطلب من الألفي أن يأخذها إلى حيث الكتاب والفنانين والمثقفين الذين عاشت عمراً تقرأ لهم وعنهم. وعندما يأخذها إلى واحد من تلك التجمعات يقابلهما النجم الثقافي اللامع «ف. ف» وما إن يجلس بجوار عفاف حتى تنتفض محمرة الوجه متوترة وكأن أظافر وأنياباً قد نبتت لها، يغادر بها الألفي المكان فتقول عفاف: «كم هو بارع ابن الـ.. لم أدرك عندما حدثنى عن العقد، وعن رقبتى ثم عن صدري، بلهاء ما زلت كنت أبتسم، ثم مد يده لفخذي. في أقل من ربع الساعة صنع بي كل هذا».
مجدداً تغتصب فلسطين من صهيوني مسلح أو كتائبي ملثم أو قاهري مثقف لا فرق.
ثم يغادر الألفي المصحة إلى خلاء يسكنه أحد أصدقاء أبيه القدامى يشاركه الألفي مسكنه المقام وسط غابة زرعها من أشجار اللوف وأشجار ست الحسن. «حوله دنيا واسعة خالية، ليس إلى جواره أحد. لم يكن حزيناً. يراقب الأشياء وهي تنتهي ليس في ضوضاء، لكن في سكينة.
هذا هو عالم رواية الفنان الكبير علاء الديب التي تؤلم قارئها بقدر ما تمتعه ويأتي الألم من موهبة الديب الخاصة في وضع يده على التفاصيل الحقيقية لحياة أبطاله، تلك التفاصيل التي تختفي تحت أطنان من تراب المفردات اليومية، يأتي الديب فيرفع التراب ليظهر الجوهر لامعاً نقياً مغسولاً بالحقيقة وثمة أمور انفردت بها هذه الرواية عن سابقاتها من روايات الديب وأعني بها دخول «الطبيعة» بوصفها بطلاً من أبطال العمل – راجع علاقة الألفي بشجرة المنصورة – والأمر هنا تعدى علاقة مثقف مرهف الحس بما حوله إذ إن بؤس حياته جعل من الشجرة أخت روح وتوأم محنة وما أجمل تلك الصفحات التي أفردها الديب للحديث عن علاقة الألفي بشجرته، ثم هناك فلسطين وهذا التناول «الأنيق» – أعتذر عن كلمة أنيق وكان يجب أن أقول الحقيقي – لتلك المأساة الملهاة، نادرة هي الكتابات التي تخلو من فجاجة الزعيق ورغاوى الأكاذيب، فلسطين في رواية الديب هي تلك التي نحسها ولا نراها، فقد أفلح أولاد الأفاعى في جعلها نشيداً نردده ولا نحسه.
أما عن الألم فأظنه «هوية الديب الشخصية» إنه يكثف جمله حتى نتيقن أنه اعتصر ذاته وصفى دمه، ثم ولأنه لا يرحم نفسه فإنه لا يرحم قارئه إذ يقدم له في كل سطر حقيقة من تلك الحقائق الموجعة التي لا نريد أن نكاشف بها أنفسنا ويكفي أن صرخ قبيل النهاية: «هل هذه حياة.. هل هذا بيت؟».
* القاهرة.