*هيثم حسين
عاشت الروائية السورية شهلا العجيلي على الحكاية، في بيئة تعطي هالة أسطورية لكل حدث وتمنحه دلالة، ترعرعت في دفء الشمال الشرقي لسوريا، حيث للماء حكاية، وللتراب وللطعام، عدا عن حياة النساء المجبولة بالسرد.
استلهمت شهلا العجيلي -وهي من مواليد مدينة الرقة السورية (1976)- من ذاك المكان وتاريخه جوانب من رواياتها التي تحاول فيها التقاط التحولات، وتراها الإشكالية الجوهرية للفن الروائي، كما تعتقد أن الكتابة تخلق فضاءات جديدة.
شهلا ابنة أخ الروائي السوري الراحل عبد السلام العجيلي (1918-2006) الذي يعد أحد أبرز المؤسسين في الرواية العربية، وهي أكاديمية وروائية تحمل الجنسية الأردنية بالإضافة لجنسيتها السورية، تدرس الأدب العربي الحديث في جامعة حلب، والجامعة الأميركية في مادبا في الأردن.
نشرت العجيلي عدة إصدارات نقدية وإبداعية، منها: مجموعة قصصية بعنوان “المشربية”، و”عين الهر”، و”سجاد عجمي”، و”الرواية السورية.. التجربة والمقولات النظرية”، “الخصوصية الثقافية في الرواية العربية”، و”مرآة الغريبة.. مقالات في نقد الثقافة”.
وصلت روايتها الثالثة “سماء قريبة من بيتنا” إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها الحالية، وبهذه المناسبة أجرت معها الجزيرة نت الحوار التالي:
ترصدين في “سماء قريبة من بيتنا” بطريقة درامية التحولات التاريخية، وما تحدثه من تغيرات، وترسمين مصائر شخصياتك وعلاقاتها بطريقة غريبة تمزج الطفولة بالنضج –بحسب وصف لك- هل سعيت في روايتك وما تشتمل عليه من اشتغالات لمواجهة الحاضر بتداخلات الأدب والواقع ومعتركاته؟
لا يمتلك النص الروائي العربي في هذه المرحلة التاريخية تحديدا ترف الإعراض عن الحاضر الذي سيفرض ذاته برؤى روائية مختلفة تقوم على الاشتغال كما ذكرت، وأنا أؤكد على هذه المفردة (الاشتغال) لأنها تشير إلى مدى الانهماك الفني لمقاربة الواقع الشائك، والملهم، والانزياح عنه في الوقت ذاته.
أنا اخترت مقاربة كلاسيكية: ببنية فنية متماسكة، وحكايات مؤثرة، وشخصيات رئيسة مرسومة بوضوح، فيزيائيا ونفسيا وتاريخيا، لكن عملت على إثراء هذا الإطار العام بعوالم فيها الغريب، والفانتازي، وشخصيات كثيرة طارئة ذات حكايات عجيبة، ينظر معظمها إلى العالم بفطرة بدائية ودهشة، وبذعر مما يحدث فيه من تحولات، وذلك بعيدا عن الأيديولوجيا، أو التفجع، أو المبالغة في إثارة غرائز من مثل الخوف والحقد والانتقام.
إلى أي حد تتكئين على جانب السيرة الذاتية في روايتك، ولا سيما أن هناك بعض التقاطعات بينك وبين بطلتك “جمان” من حيث الانتماء والمكان؟ وإلى أي حد تؤرخين لجانب من ذاكرتك الشخصية في عملك؟
لطالما حكي عن أن الرواية سيرة ذاتية ملتبسة، وكونديرا قال “إننا نعيد كتابة سيرتنا بلا توقف، ونمنح دلالات جديدة للأشياء”، وما يستقطبني لاستعارة بعض من تفاصيل حياتي هو المنتج الفني لتجارب ذات مغزى إنساني عميق لأحداث عشتها أو عايشتها، إن الدلالات التي تنتجها اللغة حتى عن تجاربنا الذاتية تكون مختلفة عن الوقائع، مفاجئة ومدهشة.
ثم إنني عشت على الحكاية، في بيئة تعطي هالة أسطورية لكل حدث وتمنحه دلالة، هذا هو دفء الشمال الشرقي لسوريا، حيث للماء حكاية، وللتراب وللطعام، عدا عن حياة النساء المجبولة بالسرد.
أعتقد أن المستند الذاتي اليوم يمتلك أهمية في الكتابة، وذلك بعد سقوط المرجعيات التي آمنا بها طويلا، وتخلت عنا بين ليلة وضحاها، كما أن تفاصيل حياتنا في هذه المنطقة من العالم تقع تحت سطوة الأحداث الكبرى، فأعمارنا ليست بعيدة عن لحظة تكوين الدولة القومية، وتاريخنا الشخصي هو تاريخ أيديولوجي وسياسي إلى درجة كبيرة، وموسوم بالقلق.
إلى أي درجة تساهم الحرفة الروائية -ولا سيما أنك ناقدة وروائية- في إضفاء بعض الصفات على الواقع أو التاريخ في محاولة لإخراجهما بحلة أدبية، خاصة أنك توثقين تفاصيل ومتغيرات اجتماعية تاريخية، وقد اعتمدت على جزء من هذا التاريخ الاجتماعي في روايتك “عين الهر”؟
أحاول التقاط التحولات، لأنها الإشكالية الجوهرية للفن الروائي، ففي “عين الهر” قدمت متخيلا شعبيا لمفهوم التصوف، يكشف عن الفساد السياسي والاقتصادي للبنية الاجتماعية التي تتستر وراء خطاب عرفاني.
عموما، أنا مولعة بدراسة تاريخ الظواهر والأشياء، وليس الظواهر الأدبية فحسب، وهذا يساعد كثيرا في استشراف القادم، وتمييز ما يسمى مزاج المرحلة، ولعل البحث في تاريخ الأشكال الفنية وعلم الجمال يصنع حدسا أو يقدم رؤية قابلة للتطور مع المزيد من الجهد.
الكتابة أيضا ليست تقييدا لما نتخيله، بل إنها تولد الأفكار، وتخلق فضاءات جديدة، وليس أدل على ذلك من أن النص الروائي الذي ننتجه ليس هو ذلك الذي خططنا له، ما يهم هو أن نمتلك الشجاعة والإصرار لنجلس ونكتب، فهذا يحتاج همة عالية.
هل يكون تصويرك لفضاءات مفتوحة تتنقل بينها الرواية من الشرق والغرب، ناهيك عن التركيز على التنقل بين الأزمنة، ورصد الحياة الجوانية للشخصيات، للترميز إلى امتدادية النزيف السوري في أنحاء المعمورة؟
النزيف السوري ليس المبدأ بل هو حلقة من حلقات طويلة من القهر البشري غير المدون، تاريخ العالم حافل بالصراعات والاضطهادات والحروب، حيث يمر الأفراد بلا وقع أحيانا، بل قد تظهر جماعات برمتها ثم تغيب مثلما حدث مع العديد من شخصيات روايتي.
لا أحد يهتم بالأفراد أو بالجماعات الصغرى مثل اهتمام الرواية بهم، إذ تبحث المدونات الرسمية والكبرى عن الاتفاقيات والتحالفات، وعن البشر الاستثنائيين، الأبطال والمهزومين.
الرواية العربية لم تنتبه كثيرا إلى فردية الإنسان كما فعلت الرواية الأوروبية مثلا، مع أن الفردية شرط رئيس في نظرية الرواية، قد يعود ذلك إلى أننا لا نزال تحت سطوة النسق، ولم نعش حالتنا الليبرالية لنحكي عن ضحايا العنف، والإرهاب، والتطهير العرقي، والعبودية بمعزل عن انتماءاتنا القومية أو الأيديولوجية أو الطبقية.
انطلاقا من هذه الفردية عدت إلى التاريخ المدمّى في سوريا، وفلسطين، والعراق، وصربيا، ومومباسا، والكاريبي وغيرها من الجغرافيات التي ظلت تقطر دما على مدى قرنين من الزمان.
كيف ترين واقع مدينتك الرقة وهي ملفعة بالسواد، وتتناهبها جماعات متطرفة، وسوريا وقد فعلت فيها الحرب ما فعلته من تدمير وتشريد؟
ما زلت أوهم نفسي بأنه واقع روائي، ولا أعرف متى سأتوقف عن الشغل عليه! كنت ألوم الكتاب اللبنانيين في أنهم لم يخرجوا من أسر الحرب الأهلية، لكن ها هو وطني يتحول إلى بؤرة سردية.
أنتجت روايتين “سجاد عجمي” و”سماء قريبة من بيتنا” بمعالجتين مختلفتين ورؤيتين متغايرتين طبعا، لكن ثيمة الحرب أو الخراب في الرقة كانت دامغة في كلتيهما، حيث صياغة درامية لتحولات الهوية والديمغرافيا بالاتساق مع تحولات النفس البشرية.
أحاول الاحتفاظ بصورة الرقة كما تركتها، بل أبعد من ذلك، لقد ذهبت إلى صورتها القديمة حيث استرجعت تفاصيلها بعين طفولتي، بلغة فيها الكثير من البراءة، والمرح، والسخرية المرة.
كيف تنظرين إلى دور الجوائز في تصدير العمل الإبداعي وتسويقه وتسليط الأضواء عليه، خاصة جائزة “البوكر”؟ وماذا يعني لك اختيار روايتك ضمن القائمة القصيرة؟
الجوائز بعامة تضع الأعمال بسرعة بين يدي المتلقي، ولا تزال “البوكر” هي الجائزة الأكثر إثارة للحرارة والتنافس في الساحة الروائية العربية، ووصول روايتي إلى القائمة القصيرة يعني أنني في هذا النص متمكنة من أدواتي الفنية، وأمتلك رؤية معرفية وجمالية مؤثرة ومميزة، وهذا الوصول أمر مهم في تاريخي الروائي، وسأستند إليه كلما شعرت باليأس أو الإحباط.
أعتقد أن الجوائز تأتي لأننا نكتب من منطلق حبنا للكتابة، ولانشغالنا الدائم والجاد بتطويرها، هكذا يتحول الشغف إلى حرفة، ولعل ما يهم هو ماذا بعد الجائزة أو القائمة! لا بد من العمل، عمل أكثر ومسؤوليات أكبر، فالاستمرار والتجويد والتجاوز ليست أمورا هينة على الإطلاق.
______
*الجزيرة