*يوسف ضمرة
تحرص الأقليات في أي مكان على الحفاظ على هويتها المختلفة، وإن بدا للآخرين أنها اندمجت في المجتمعات الجديدة، فإدوار سعيد أشار في مقالة له إلى مسألة التميز التي يحرص المنفيون عليها، لتشكل عاملاً إضافياً للحفاظ على الهوية. فالأرمن في بلد كالأردن مثلاً، اشتهروا بإتقان الحِرف اليدوية الدقيقة، كصناعة المجوهرات الأصلية والمقلَّدة، كما عُرف عنهم إتقانهم مهناً أخرى، مثل ميكانيك السيارات وغيرها.
وعُرف عن الشركس والشيشان عنايتهم الفائقة بالرقص والفنون الخاصة بهم، حتى إنهم لا يقومون بها إلا بعناصرها المكتملة، كاللباس التقليدي والطقوس المصاحبة.
وفي مرحلة سابقة في تاريخ الأردن، قبل الطفرة النفطية وتوسع رقعة المجال العقاري، كان الشيشان الأردنيون موردين أساسيين للخضراوات التي برعوا في زراعتها على ضفاف نهر الزرقاء ورأس العين في عمان.
وقبل أيام قرأت تحقيقاً صحافياً، يتناول مسألة الأسماء في الأقليات، ولم أفاجأ بحرص الأقليات، كالأرمن والشركس، على توريث الأسماء التقليدية إلى أبنائهم، على الرغم من الصعوبات أو المصاعب التي قد تصاحب صاحب الاسم في الدوائر الحكومية حيناً، وبين الأصدقاء والزملاء في المدرسة والجامعة والعمل حيناً آخر، فالاسم جزء من الهوية الشخصية، وهم يعتقدون أن اندماجهم في المجتمعات العربية لا يعني تخليهم عن ثقافتهم وهويتهم الأصلية، وهو حرص تشكله على الدوام رغبة المنفيّ الدفينة أو المعلنة في العودة إلى بلاده التي أجبر على مغادرتها أو شُرِّد وطرد منها، لأسباب معروفة، كما فعلت الدولة العثمانية بالأرمن والشيشان والشركس.
ومع إتقان أبناء هذه الأقليات اللغة العربية، برز من بينهم كتاب وشعراء، على الرغم من أنهم فيما بينهم لا يتحدثون العربية بالطبع، لأنهم حريصون على تعليم أبنائهم لغة آبائهم وأجدادهم، التي تعد ركناً أساسياً من أركان الهوية.
يميل أبناء هذه الأقليات إلى كتابة الرواية أكثر من غيرها، والسبب الرئيس لذلك يتعين في رغبتهم في تدوين ماضيهم أدبياً، وكأنهم يريدون للعالم كله أن يعرف قصتهم، والظلم الذي تعرضوا له خلال عقود خلت، قبل استقرارهم في البلاد الجديدة.
وتميل هذه الروايات إلى ما يشبه السجل التاريخي للمعاناة التي رافقت خروجهم من بلادهم، من دون أن ننسى الحرص على إبراز البطولات إلى جانب المعاناة والظلم، وهو أمر طبيعي لأي أقلية في أي مجتمع، حيث تشكل هذه القيم ــ بغض الطرف عن المبالغات أحياناً ــ آليات دفاع ضد الآخر الأكثري، الذي يشكل للأقليات تهديداً غير مباشر، بوصفه محيطاً كبيراً مختلف الملوحة والرطوبة والحرارة والعمق عن المحيط الذي نشأت فيه الأقليات في الأصل.
ومن دون قصد في معظم الحالات، تلجأ هذه الكتابات إلى ما يشبه تذكير الأكثريات بفضلها وثقافتها وعملها، كممارسات ساهمت في نقل المجتمع من مستوى إلى مستوى أكثر ارتفاعاً وسمواً، وهو أيضاً ما يشكل إحدى آليات الدفاع التي أتينا عليها.
فرواية مثل «الخروج من سوسروقة»، للكاتبة الأردنية/ الشركسية زهرة عمر، تحاول أن تسجل رحلة العذاب التي قطعها أبناء جماعتها من القوقاز إلى الأردن، وهي لا تنسى أن تأتي على النمط الزراعي لحياتهم، في مرحلة البداوة التي كان عليها المجتمع الأردني.
ثمة أكثر من عمل روائي وأدبي لأبناء الأقليات، وكلها تحرص على تكريس عناصر الهوية الأصلية، على الرغم من الاندماج الكلي في المجتمعات العربية، والحصول على وظائف حكومية رفيعة، إضافة إلى التمثيل البرلماني الدائم.
_____
*الإمارات اليوم