البرتقالة الآلية.. التطرف في النظم السياسية


أسامة حبشي*


خاص ( ثقافات )

رواية “البرتقالة الآلية” والمصنفة رقم 82 عالمياً كأفضل الروايات لـ”أنتوني بيرجس” وقد صدرت عام 1962 رواية تتناول حرية الفرد في مقابل حرية المجتمع، وهي أيضاً رواية الانتصار للفرد في مقابل المجتمع، البرتقالة الآلية من الروايات القليلة التي تعد على أصابع اليد لأنها ترصد تفسخ المجتمع الغربي والحضارة التي لم تفض إلا بالقيود والقهر والعنف وتهدف لنزعة تلك الحضارة في خلق أنماط بشرية خالية من الانفعال ومن التمرد، وهي رواية تفضح التطرف في النظم السياسية. 

أنتوني بيرجس قد قال عن سبب تسمية روايته بهذا الاسم إنه أخذ الاسم من مصطلح بريطاني تعلمه عندما كان في الملايو، وهي تستخدم بمعنى إنسان منتظم مثل الساعة أو استجابته آلية. وكلمة برتقالة حرفها البريطانيين عن كلمة Orang بالملاوية وتعني “إنسان”.
الرواية تبدأ في اليوم الأول حيث يهاجم أليكس وعصابته متشرداً عجوزاً يلتقون به في الطريق بدون سبب ثم يذهبون للمشاجرة مع عصابة بيلي بوب عدوه اللدود، وأخيراً يذهبون للاعتداء على أحد الكتاب في منزله واغتصاب زوجته فيتركونه ليُشل، بينما زوجته تفارق الحياة. في صباح اليوم الثاني يتغيب أليكس عن المدرسة ويذهب إلى محل موسيقى ويعود للبيت مع فتاتين، وفي مشهد متسارع أثار الكثير من الجدل باعتباره فاحشاً يمارس معهم الجنس على أنغام افتتاحية وليام تل. ثم في بمنتصف النهار يواجه عصيان عصابته ولكنه ينجح بان يفرض قوته عليهم، وفي الليل يذهب وعصابته للهجوم على أحد المنازل، لكن سيدة المنزل ترفض إدخالهم وتقوم بالاتصال، بالشرطة لكن أليكس لا يعي ذلك فيحاول الدخول عن طريق النافذة، لينشب بينه وبين المرأة شجار يضربها به ضربة تودي بحياتها لاحقاً، وعندما يحاول الفرار يتعرض للضرب من قبل أفراد عصابته ويترك في مسرح الجريمة فاقدا الوعي. يحكم على أليكس بالسجن 14 سنة بتهمة القتل غير العمد، وفي السجن يعمل كمساعد لقسيس السجن، وفيه نرى أليكس يقول إنه عندما كان يقرأ الكتاب المقدس، وكان يستمتع بقصص ضرب قدماء اليهود لبعضهم ومغامراتهم الجنسية، كما كان يتخيل نفسه وهو يعذب وكما يقول كان مسئولاً عن الجلد ودق المسامير. فيه هذا الجزء ومن خلال موعظة القسيس نتعرف على المحور الأساسي للفيلم وهو تعريف الصلاح، وهل ينبغي أن يكون تطوعي يأتي من الداخل أو يفرض فرضا كما سنرى لاحقا؟ يقول القس “إن الإنسان إذا فقد القدرة على الاختيار فقد فقد إنسانيته”.
في السجن يسمع أليكس ببرنامج علاجي تجريبي اسمه ” علاج لودفيكو” وهو بالمناسبة الاسم اللاتيني المقابل لاسم بيتهوفن الأول ” لودفيغ”، والبرنامج شبيه بتجربة العالم الروسي بافلوف التي عرفت باسم الإشراط الكلاسيكي.. يُختار أليكس لهذا العلاج من قبل وزير الداخلية شخصياً، وفي هذه التجربة العلاجية يتم الربط بين العنف وبين الشعور بالغثيان ليصبح يشعر بالغثيان عندما مشاهدة أي عنف، لكن بطريق الخطاء يتم الربط أيضا بين السيمفونية التاسعة لبيتهوفن والشعور الغثيان.. بعد العلاج المستمر يخرج أليكس وهو لا يستطيع الإقدام على أي أعمال عنف حتى لو كان دفاعا عن النفس، ويعود أليكس إلى منزله ليجابه بالرفض من أهله الذين قاموا بتأجير غرفته لشخص آخر بدون اعتراض فيهيم على وجهه في الشوارع، ويلتقي أولاً بالمتشرد الذي سبق وأن اعتدى عليه أليكس، فيقوم بمهاجمته هو مجموع من العجائز وفي هذا رمزية لمحاربة الكبار الشباب أو التقاليد القديمة مع العادات الجديدة. لاحقا، يلتقي أليكس باثنين من أفراد عصابته السابقين الذين أصبحوا من رجال الشرطة. يقتادون هؤلاء أليكس إلى أطراف المدينة ويقومون بالاعتداء عليه بالضرب ثم يتركونه خائر القوى، ويذهب أليكس إلى أقرب منزل وهو بالمصادفة منزل الكاتب الذي أعتدى عليه سابقاً. يحسن الكاتب ضيافة أليكس حتى يكتشف هويته، ويعرف إنه أيضا لا يستطيع تحمل السيمفونية التاسعة فيقوم بحبسه في إحدى الغرف ويسمعه موسيقى بيتهوفن ولكي يتخلص أليكس من عذابه يقفز من النافذة في محاولة انتحار فاشلة ينقل على أثرها إلى المستشفى حيث تتم عملية عاكسة لعلاج لودفيكو، ويعود أليكس لطبيعته ويتلقى زيارة خاصة من وزير الداخلية يعتذر له فيها ويعرض له عمل في الحكومة لتحسين صورتها.
ولأن ستانلي كوبريك من أنصار حرية الفرد، وأيضا من المخرجين القلائل الذين يمتلكون فلسفة خاصة تنعكس بكل أفلامه، هذه الفلسفة التي تكمن في تمجيد الفرد، وفي الرغبة للتحرر من كل قيود أوروبا الصناعية، لذا جاءت رواية البرتقالية ضمن اختيارات كوبريك لتحويلها سينمائيا، في عام 1971 بطولة مالكوم ماكدويل وباتريك مافي، وسيناريو وحوار استانلي كوبريك، وقد غير كثيراً من الرواية وأضاف عليها كالجزء الأخير من الفيلم ومقابلة أليكس للمتشرد مرة أخري وأيضا في عمر أليكس حيث هو في الرواية 15 عام، وبالفيلم جاء 18 عاماً.
بالفعل كوبريك قد وجد ضالته في تلك الرواية، حيث رغبته في تقديم عمل يوضح مأزق الإنسان المعاصر وحيرته مابين السلوك الفردى والسلوك الجماعي، ومن هنا كان بطل الرواية- أليكس العنيف الذي يرتكب جريمة، وتحاول الدولة إعادة تاهيله وتهذيبة من وجهة نظرحكومية بحته- هو النموذج لهذه الرغبة الدفينة في عمق فسلفة كوبريك.
إن أليكس كان الشخصية النموذجية لأفكار كوبريك ولتقديم فلسفته التي تنظر لمسألة المخير والمسير، ومسألة حيز الفرد وحيز المجتمع والصراع بينهما، وللجانب الفرويدي لدى البطل.. من كل هذا جاء انتصار كوبريك للبطل برغم كل ما ارتكبه من عنف مقزز في بداية الفيلم وجاء هذا الانتصار عندما قدم كوبريك عنف الدولة/ السلطات أثناء غسل دماغ البطل/ أليكس. وبما أن كوبريك يؤمن أن السلطات إذا أرادت أن تصون نفسها وتحمي قيمها فستكون قمعية وعنيفة بشكل قد لا يصدق، وهذا تماماً ما أراد تقديمه في فيلمه “البرتقالة الآلية”.
كوبريك أعماله السينمائية بشكل عام تتسم بالكادر الواسع والديكور والموسيقي، وتتسم أيضاً في قدرته على رصد انفعالات أبطاله من خلال اللقطات الضيقة، كما رأينا في أول أفلامه “القتل” وصولا لآخر أفلامه “عيون مغلقة باتساع”، وتحديدا في فيلم البرتقالة الآليه، نجد أن كوبريك قد قدم أوبرا العنف- في فيلم لن يتكرر مرة أخرى في تاريخ السينما العالمية- عبر الموسيقى والمونتاج والإضاءة والحوار وإدارة الممثل.
يؤمن كوبريك أيضاً أن العنف من الممكن قد يتحول إلى رقصة وأن الموسيقى والحركة مرتبطان. لذا وجدنا مشهد انتقام أليكس من مجموعته المصحوب بموسيقى بيتهوفن.. إن الثلث الأول من الفيلم يأخذنا في متاهة العنف اللامبرر واللامنطقي من قبل أليكس المراهق، المتعاطي للمخدرات والمفتون بموسيقى بيتهوفن، والذي يرأس مجموعته – الذين هم في نفس عمره (18 عاماً تقريبا) فيما أشبه بعصابة عنيفة، متمرده على المجمتع، وتؤذي وقد تقتل كل من تقابله ليس لهدف وإنما من أجل المتعة فقط، هذا العنف الذي سيقابل بعنف أكثر شراسة من عنفهم حيث عنف الدولة، عبر محاولة إخضاع أليكس للتجربة.
وفي حوار له قال عن شخصية أليكس قال كوبريك: “أنا لا أعتبر هذا الفيلم قصة اجتماعية محلية أو آنية، ولكنه من خلال شخصية أليكس حاولت تقديم جانب من الشخصية الإنسانية”.
فيلم “البرتقالة الآلية” قد أثار الجدل الكثير، حيث العض رآه تحفة فينة، والبعض الآخر رآه فيلما مثيراً للاشمئزاز والتقزز، ولكن الفيلم سيظل تحفة سينمائية، وسيظل أوبرا للعنف بلغة ساحرة، وسيظل ملهما للكثير وبالفعل هناك العديد من المخرجين الكبار قد تأثروا بهذا الفيلم وبالعنف المؤسلب والفطري به كتارانتينو المخرج الأمريكي في فيلم بالب فيكشن وفيلمه أقحاب، وكذلك المخرج التايواني جون فو في فيلمه face off، والمخرج فيرناندو ميرليس في فيلمه مدينة الرب، والمخرج المكسيكي رودريجز في فيلمه sin city.
* روائي مصري.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *