فرانكشتاين فى بغداد


محمود عبد الشكور



مدهشة حقًّا هذه الرواية العراقية، «فرانكشتاين فى بغداد» لمؤلفها أحمد سعداوى، التى فازت عن جدارة بجائزة البوكر العربية، عمل ماكر متعدد المستويات: من حيث الشكل هناك استلهام فذّ، قوى ومؤثر ومشوّق، لتراث ما اصطلح على تسميته بالرواية القوطية، تلك التى تقدم عالمًا غرائبيًّا مرعبًا، مستخدمةً الأقبية والمنازل والشوارع المظلمة، ومستعينةً بأجواء خارقة وغير مألوفة. يبنى سعداوى روايته بأكملها على قصة المسخ الذى صنعه عالم يدعى فرانكشتاين، وسرعان ما تمرد المسخ على خالقه، وأصبح خطرا على البشرية، هكذا كتبت مارى شيلى حكايته فى عملها الأشهر، ولكن فرانكشتاين ومسخه العراقى يتم استحضاره فى بغداد فى عام 2005، فتصبح الحكاية هجائية عنيفة ولاذعة للفوضى التى نتجت عن الاحتلال الأمريكى، وللشر الذى انطلق بلا ضابط ولا رابط، وللجنون الذى أصبح شعارا، لم نعد نعرف منْ يحارب منْ؟ ولا منْ يقتل منْ؟

يكشف هذا الاستلهام الذكى لقصة فرانكشتاين عن وعى الكاتب وخصوصية تجربته. يتضح أيضا بجلاء مدى تمكن سعداوى من أدواته كروائى إلى درجة يجعل فيها المستحيل ممكنا، بل إن الصورة العبثية تتسق تماما مع هذه الصراعات المجنونة التى نعيشها فى العراق وفى كل بلد عربى تقريبا. رواية مارى شيلى فى مستواها الأعمق، تقدم أمثولة تستحضر إبليس الذى تمرد على خالقه. فرانكشتاين فى الرواية هو اسم العالم الذى صنع المسخ لا المسخ نفسه، ولكن الناس أصبحت تطلقه على الكائن المشوَّه، مما يفتح الباب أمام سؤال ماكر حول مدى مسؤولية الصانع عن كل الشر الذى سينطلق من مسخه المتمرد؟ وهل كانت النيات الطيبة وحدها كافية؟!

نحن الآن فى بغداد تحت الاحتلال، منتصف العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، قتلى فى كل مكان، تفجيرات وعربات مفخخة فى كل حى، خوف يعشش فى القلوب، فرانكشتاين العراقى اسمه هادى العتاج، تاجر عاديات/ روبابيكيا بمعنى أدق، لا يفيق من الخمر، يقيم فى منزل خرب، عندما يفقد أحد أقرب أصدقائه فى انفجار عبثى، يكتشف عالم الجثث الميتة، يقرر أن يجمع أشلاء الضحايا فى جثة واحدة صحيحة: رجل ويدان من هذا، وعينان من ذاك، يكتمل المسخ جسدًا، ولكنه لا يتحرك إلا بدعوات أم مسيحية تدعى إيليشوا فُقد ابنها فى الحرب منذ عشرين عاما، ولكنها تؤمن بعودته، وتدعو دوما صورة القديس مارجرجس لكى يعيده، ثم يكمل سعداوى مسخه بأن تحل روح حارس أمن ذهب ضحية تفجير إرهابى فى الجثة المجمّعة، يولد المسخ العراقى من قلب الفوضى والجنون، كل جزء منه يطلب الثأر عند من قتله، ورغم أن إيليشوا تطلق عليه اسم ولدها الغائب دانييل، إلا أن هادى/ فرانكشتاين يختار أن يناديه «الشسْمة»، أى «الذى لا نعرف له اسمًا» باللهجة العراقية.

المسخ فى مهماته الأولى يمثّل سيف العدالة الغائب، أجزاؤه من جثث ضحايا يمثلون كل الأعراق والديانات والطبقات، كأنه العراق وقد توحّد فى جثة تلتمس العدل والقصاص، كلما استجاب المسخ لهاتف الانتقام من جزءٍ ما سقط هذا الجزء، ارتاح وسكن، تبدو المهمة موقوتة بسقوط الأجزاء التى صنعها هادى، ولكنها سرعان ما تخرج عن السيطرة، يظهر معاونون للمسخ، مجانين وحمقى ومنافقون وسفسطائيون، البعض يطارده فى إدارة يطلقون عليها المتابعة والتعقيب، رئيسها العميد سرور يحلم بالقبض عليه بالاستعانة بالمنجمين. المسخ نفسه أدمن القتل، لم يعد يدقق فى الأجزاء التى يتكون منها، هل هم ضحايا أم مجرمون؟ ثم ينتهى إلى الفلسفة: لا توجد ضحية كاملة، ولا مجرم كامل، كل شخص فيه نسبة من هذا وذاك، فى ظل الفوضى والجنون يصبح سؤال الرواية الأهمّ والأعمق: هل المسخ هو «الشسْمة» أم أنه يعشش داخل النفوس المشوهة والشريرة؟!

ينسج سعداوى بناءً مركبًا، ويتلاعب بفكرة الالتباس كيفما شاء، يفترض أن السرد بأكمله كتبه مؤلف حصل على تفاصيل مسخ بغداد من دائرة المتابعة والتعقيب التى تم حلّها. الدائرة نفسها عالم غرائبى معزول يعتمد على التنجيم. الخيط الأول سيحصل عليه المؤلف من صحفى يدعى محمود السوادى، جاء إلى بغداد للعمل فى جريدة اسمها «الحقيقة»، ثم يُتهم رئيس تحرير «الحقيقة»، ويدعى على باهر السعيدى، باختلاس 13 مليون دولار، والهرب بها إلى الأردن. نحن إذن أمام بناء سردى ملتبس ومقصود يحاكى التباس الفوضى والجنون والشر والشر المضاد، دائرة عبثية تجعل من كلمة «الحقيقة» نكتة، وهل هناك عبث أكثر من مشاركة القديس مار جرجس، وتاجر عاديات مخمور، وأشلاء بشرية، فى صناعة مسخ يحاول الانتقام، ثم يتحول بدوره إلى هدف للانتقام؟!

انظر كيف شيّد الروائى البارع عالمه الموازى! اسأل نفسك وأنت تقرأ هل المسخ الخارج عن السيطرة أكثر خطورة على المجتمع، أم فرج الدلال الذى وضع يده على منازل لا يملكها مستغلا الفوضى، أم العميد سرور خادم كل الأسياد؟ تأمل رسوخ جيل العجوز إيليشوا، التى لا تغادر بغداد إلا بعد أن وصل حفيدها، فى مقابل جيل محمود السوادى وزملائه الذين يتفرقون بدَدًا مُحبَطين وهاربين؟ فى النهاية سيعلنون القبض على المسخ، سيزعمون أنه هو هادى العتاج، فرانكشتاين أيضا مسؤول عما صنعت يداه. أما الشسْمة فسيقف رابضًا بجوار القط الشاهد على العبث والدمار، ذلك أنه من المستحيل أن يموت المسخ فى مجتمع فقد عقله يمدّه بأسباب البقاء والاستمرار.

يقول أحمد سعداوى فى روايته التى تهزك من الأعماق، إن الغرابة والجنون ليسا فى الخيال القوطى الذى تستوحى الحكاية أدواته، ولكن الجنون والشر كامنان فى البشر، حتى لو قتلنا المسخ سيظهر ألف مسخ. المأساة فى داخلنا، فى أننا تعودنا على القتل والانتقام والفوضى، فأصبح كل ذلك جزءا من حياتنا، يوم أن نقتل الخوف والتعصب والكراهية فى داخلنا، هنا فقط نستطيع أن نحتفل وأن نقول بملء الفم: «لقد قتلنا المسخ وصانعه فرانكشتاين معًا بضربة واحدة».

-التحرير

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *