إعادة قراءة


*أمير تاج السر

في الأشهر الماضية، وفي تقليد أحرص عليه كل عامين أو ثلاثة، قمت- في ما عثرت عليه من وقت- بإعادة قراءة ثلاثة من أعمالي الروائية التي كتبتها في فترة مبكرة، وهي روايتي الأولى: «كرمكول» التي صدرت في القاهرة أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ولم أكن أملك منها نسخة، وعثر عليها أحد الأصدقاء في سوق الأزبكية للكتب المستعمَلة في مصر، وأرسلها لي. أيضاً روايتي «سماء بلون الياقوت» التي صدرت منتصف التسعينيات في الأردن، ورواية ثالثة صغيرة اسمها «عواء المهاجر»، صدرت في السودان في الألفية الجديدة، ولم تتمّ قراءتها على نطاق واسع، أيضاً لم تُقيّم نقدياً تحت أيّ مستوى.

ما لاحظته في تلك الأعمال، هو قصرها الشديد، أي أن عدد الكلمات في كل نصّ، لا يمكن أن يتجاوز الخمسة عشر ألف كلمة، في أحسن الأحوال. هناك تكثيف كبير في السرد، واختزال للحكي في صور شعرية غاية في القصر، وجمل تبدو- برغم رنينها الموسيقي- أشبه بصخور جامدة، أيضاً يوجد غموض كبير في الحكاية، ولا بُدَّ أن القارئ كان يطارد الخيوط، يمسكها، وتزوغ منه، ليمسكها وتزوغ مرة أخرى، وهكذا إلى أن يصل إلى نهاية الكتاب إما راضياً عن قراءته، وناصحاً بها غيره من القراء، وإما لاعناً هكذا طريقة، وفارّاً من الكاتب. وأظنّ أن هذا ما كان يحدث، خاصة في رواية «سماء بلون الياقوت»، التي سرق الشعر سرديَّتها بالكامل، وبدت أشبه بقصيدة طويلة. لقد كانت تلك الرواية تحكي قصة (سعد الأرباب) أبي القرية وأمّها، والمتحكِّم في مصائر سكّانها، بحكم ما يعتقدونه فيه من صلاح، وتحكي عن موته الذي قلب كيان تلك القرية، وحَوَّلها إلى خواء مادّي وروحي، وعن الغرباء الذين احتلّوا موقع (الأرباب) بعد ذلك، ولن يكونوا مثله.
أعتقد أنه كانت لديَّ فكرة أردت توصيلها من خلال تلك الرواية، لكن، للأسف، ومع هوس التجريب الذي كان سائداً عندي، إضافة إلى تأثّري الشديد بالشعر في تلك الفترة الانتقالية، أي الفترة التي تركت فيها كتابة القصائد، وانتقلت لكتابة السرد، لم تصل الفكرة جيداً، ولم تُكتَب بالطريقة التي- رُبَّما- تستهوي قارئاً ليكمل. لقد كانت الكتابة صعبة بالفعل، وتحتاج إلى خارطة يضعها الكاتب، حتى يتبعها القارئ المصرّ على عبور النصّ حتى النهاية، صحيح أن هناك شخصيات جاذبة مثل شخصية التاجر الملقَّب بـ (المهمّ)، وشخصية (أولاد التركي) الصعاليك الذين استوطنوا في البلدة، لكن- أيضاً- لم تكن تلك الشخصيات واضحة بما يكفي للإعجاب بها، أو لترسخ في أذهان من يمرّون بها، وهكذا بدت تلك الرواية، والروايتان الأخريان، تجارب أعتبرها مشوّشة في تاريخي الكتابي، وربما لو عدت إلى فترة تلك البدايات لما كتبتها مرة أخرى، وحتى مغامرة إعادة كتابة أيّ منهما تبدو صعبة، خاصة أنني فعلت ذلك مع رواية «صيد الحضرمية»، حين أعدت كتابتها، وأصبحت: «اشتهاء»، ذلك ببساطة أن «صيد الحضرمية» كانت تملك حكاية واضحة، وصعوبتها في اللغة، بينما هنا الصعوبة في كل أركان الكتابة من حكي، ولغة، ورسم شخصيات، وغيرها.
أقول بصراحة، إن الكاتب يجب أن يكون أميناً في قراءة تجربته الخاصة، بحيث يحيي ما يحيا فيها، ويلوم ما يُلام منها، من منظوره الشخصي، لأن الكاتب حتى لو رضي عن عمل من أعماله، فلن يسلم العمل من انتقاده بواسطة قرّاء رُبَّما لا يعجبهم.
______
*روائي من السودان/ الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *