قراءة في رواية “رنيم”


*قاضي ناصر

( ثقافات )

جرت عنونة الرواية تحت مسمى “رنيم” للكاتبة بيران، وهو رنيم كل شخصية مرت بالرواية، ابتداء من الأم مريم وكنتها عائشة وإبنيها أبا القاسم وعمر….إلى باقي الشخصيات وكذا رنيم كل المعارك التي خيضت.
هذا الرنيم الذي ما فتئ يتدحرج بين الحاضر والماضي بفلاشات باك مفاجئة لا إرادية. 
متناولا الذاكرة مع الأجداد كما تتناول الذاكرة الأحفاد اليوم، ومعاناة ؤولائك وهؤلاك معاناة مشابهة لتقارب تلك الترانيم المتوافدة عليهم. معبرا عن مدى ثقل الذاكرة عند الشعب الجزائري حينها(فلا قطرات مياه الوادي كفت ولا قوة الأحجار قدرت) كما ذُكر في الرواية.
تتمحور الرواية “رنيم” للكاتبة بيران حول عائلة جزائرية إبان ثورة التحرير، وحقبة قصيرة بعد الإستقلال في ولاية البليدة وسط الجزائر وبعض المناطق التابعة إليها ريفيا وحضريا فيما بعد، وفي بعض مناطق ولاية تيبازة حيث دارت أغلب المعارك المذكورة في الرواية، وهي عائلة افتراضية تشبه عدة عائلات جزائرية عانت وعاشت ما عاشته تلك العائلة، للغوص في مجتمع جزائري يحوم من حوله ذاك الرنيم من كل صوب.
تحمل الرواية عرضا عن الحياة والتحولات السياسية والإجتماعية والأخلاقية والفكرية في الجزائر، كما تتعامل الكاتبة بحساسية مع أوجاع أفراد تلك العائلة الذين يفارقون الحياة واحدا تلو الآخر إلى أن تصل إلى رنيم عائشة، تلك الزوجة التي كانت المحور الأساسي و فارقت الحياة بنهاية الرواية وكأنما بتوقف رنيمها توقفت شهرزاد عن الحديث المباح.
تتناول الكاتبة ذكر دور الناحية الرابعة أو الولاية الرابعة وبعض معاركها بفترة الإستدمار الفرنسي وهي ناحية نادرا ما تم ذكرها أدبيا أو سينمائيا إجحافا بها أو إهمالا ونسيانا.
وكأنما تحاول الروائية أيضا أن تلقي الضوء على تاريخ فرنسا الذي لا يمكن أن يُكتب دون أن تُذكر مجازره في الجزائر لبشاعتها، وتضيء ذلك الشرخ بين رفض فرنسا للإعتراف والإعتذار عن أفعالها الشنيعة طيلة قرابة قرن ونصف، وبين تاريخ الجزائر الذي لا يفتئ يذكر هو وشعبه في كل لحظة يعيشها وتلك الحقائق التي لن تمحى هونا، بل ستبقى جلية وإن عاشوا على أرض فرنسا فستتبع كل جزائري وبالتالي سيذكرها هو بدوره لكل من يرافقه من عرب وأجانب، كما هو الحال في الرواية بالنسبة للإبنة التي كانت ترافق صديقتها الأجنبية المقيمة في فرنسا، حيث تسرد عليها كل حين ومن خلال كل ما يمر عليها هناك على أرض فرنسا، فحتى و إن ابتعدنا فالرنيم يلتصق بنا كالتصاق التاريخ بالشعوب. 
هذا الشرخ الذي تحاول إضاءته ولوم فرنسا عليه في الوقت الذي تطالب هذه الأخيرة بحقوق إنسانية دون أن تؤدي هي ما عليها اتجاه هذا الشعب الذي تاجرت به حتى بحروبها اتجاه بعض الدول الغربية إبان الحرب العالمية الثانية.
كما تستقي الروائية المعلومات الأساسية من واقع مر وليس من فنتازيا خيالية لتضع القارئ في مواجهة مع صدمة الحقيقة في سرقات تاريخية وقعت ولازالت، كالمعركة التي خاضها أحد شخصيات الرواية وحاول الكثير من القادة نسبتها إليهم.
تعد “رنيم” تحولا في الرواية من خلال تفتحها على خطابات أخرى غير السرد وهي النصوص الشعرية المبثوثة عبر مفاصل الرواية، وكأنما كُتبت لأجل هذه الرواية و أحداثها، نصوصا شعرية لشاعر تونسي لشاعرية بعض شخصيات الرواية ولارتباط ثورة الجزائر بتونس وغيرها من الدول العربية الشقيقة.
فكانت بذلك “رنيم” مفتاحا بين الحاضر والماضي لا يفارق كل فرد جزائري وكل أجنبي علم أو عايش تلك الثورة، بما فيهم الصحفية الألمانية إيفا بريستير التي كتبت عن ثورة الجزائر واستدمار فرنسا لها، رنيما لم يفارقها، كي يدفعها لأن تكتب عن ذلك كتابها سنة 1959 في فينا، فتختم الروائية روايتها “رنيم” بكلمات للصحفية الألمانية من كتابها “في الجزائر يتكلم السلاح”، إعلانا عن أن الرنيم لازال يتواصل ليس فقط بين أفراد الشعب إنما أيضا بين الدول الأجنبية. 
بينما سكتت بعدها الكاتبة بيران عن رنيمها روائيا عند وفاة زوجة المجاهد الذين مثّلا أهم شخصيتين في الرواية وكأنما بصمت زوجه صمت هو حزنا لفراقها. فكلاهما مثّل التاريخ مثل الرنيم الذي لا يصمت داخلنا.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *