‘مسكون’ فيلم سوري يتحدث عن ذاكرة الأمكنة


*أيهم سلمان


تقدّم السينمائية والممثلة السورية لواء يازجي في شريطها الوثائقي الأول “مسكون” جانبا لا يلاحظه الكثيرون في الحرب، حين يختفي مع وقع القذائف وصوت الرصاص، حيث لا مكان للمشاعر البشرية مقابل الغريزة الأقوى للخلاص.
يوحي الفيلم للمشاهد مزيجا من المشاعر المليئة بشحنات من الأسى والألم، وكأنه ظل وراء ظهره يلازمه، لكن من خلال مشاهدة الفيلم يتضح سريعا بأن هذا الشعور أمسى واقعا، قادرا على مطاردة الناس في كل مكان وزمان، خاصة زمن الحرب.
ويدحض الفيلم خلال دقائقه الـ113 هذه النظرية، بمواكبته لقصص متشابهة، أبطالها مختلفون، وبشكل عشوائي يقفز جزء صغير في كل قصة من هذه القصص، ليكشف الكثير من تفاصيلها حسيا على الأقل، من خلال رعشة الصوت، أو الابتسامات المشوبة بالرعب، أو العيون اليائسة التي تحاول تأمّل ما يمكن فقدانه في أيّة لحظة قادمة.
وفي اللحظة التي هيّأ فيها عبدالمجيد وزوجته حقائبهما للفرار من موت محتمل في أقرب فرصة سانحة، كانت لديهما الطاقة أو الوقت لمحادثة مخرجة الفيلم عبر السكايب، كي يرويا لها ما يحصل يوميا على مقربة منهما، بصيغة حيادية وكأنهما خرجا من المكان الذي يتحدثان عنه منذ زمن.
هي نفس اللحظة التي يحكي فيها حسين علاقته بأشيائه المبعثرة، في منزله الذي قضى فيه ما يقارب نصف عمره، بعد قدومه من الجولان كطالب، لم تعد دمشق ذاتها التي تعلق بها، ولكنه يتحسّر على ما سيتركه من بقاياها. في بقية اللوحة قصة مركبة لشاب فلسطيني يبدو واقعيا في حديثه عن مكانه الذي تركه، ويتجاوز قصته ليروي حكاية والديه، ربما لأنه اعتبرها أكثر أهمية.
تحدثت المخرجة يازجي لـ“العرب” عن بذور فكرة فيلمها، وعن دافعها الشخصي لإنجازه بالقول “بدأت الفكرة بسؤال شخصي، عندما بدأ يتسلل شبح الدمار الذي لف المدن السورية إلى دمشق. بدأت العمل بهدف إيجاد إجابات على هذه الأسئلة، ثم توثيق الحكايات والإنصات لما يفكر به الآخرون، كنت أراكم الحكايات على دراية أنه لا يمكن أن تُسمع كلها، فأنتقي منها لجسم الفيلم؛ حكايات سوريالية، فانتازية، حزينة ومؤلمة ومضحكة أحيانا لغرابتها، وشائكة انتحارية”.
وعند الاستفسار حول حضور المخرجة في الفيلم، وهي تحاور الأبطال، وتوجّه لهم الأسئلة، وتبادلهم الشحنات، فهل تعتبر نفسها إحدى شخصيات الفيلم؟ تقول لواء “يمكنني القول إنني إحدى شخصيات الفيلم، على اعتبار أن موضوع الفيلم قد نبع من سؤال شخصي، كما أنني ظهرت في اللقطات الأخيرة من الفيلم لأريح المشاهد ببلورة ذلك الآخر الذي تتحدث إليه الشخصيات.
الصوت المسموع والصورة المنعكسة على سطح الكومبيوتر أحيانا، هي خيارات فنية طبعا وليست محض صدفة، لقد جاءت لتأكيد وحدة السؤال والتجربة والمصير”.
كما تلاحظ أيضا في الفيلم علاقة مخرجته بالشخصيات، والتي يظهر أنها على معرفة جيّدة بهم وبظروفهم، وأنهم يمتلكون حساسية وقدرة على التعبير ووصف مشاعرهم تجاه الأشياء، ولعلها تعود لخلفيتهم ووسطهم الذي تنتمي إليه صانعة الفيلم، تعلّق يازجي على هذه النقطة: ربما جاء وجود بعضهم بسبب طبيعة الدوائر الصغرى التي كانت تهيمن على محيطي، ولكني حتى ضمن هذه الدوائر لم أختر كل ما أرشفته، تحركت في دائرة ذات قطر أوسع وتحت مظلة أكبر، وجمعت شخصيات لا تنتمي إلى هذه الأوساط، وكان المعيار الأساسي هو تنوّع الحكايات وإمكانيتها على تشكيل موزاييك الفيلم الذي كنت أفكر فيه.
تتابع: لا شك أن لغة الشخصيات، مفرداتهم وقواميسها وقدرتهم على التعبير عن المشاعر عوامل أساسية، ولا يمكنني سلب هذه الميزة بالطبع من الشخصيات، ولكن البساطة والشفافية والسلاسة في التعبير التي قدمتها باقي الشخصيات كانت عامل التوازن المهم.
وبسؤالنا حول مساهمة العلاقة الشخصية، بينها وبين الشخصيات، أكانت سلبا أم إيجابا على نتيجة الفيلم؟ تردّ لواء: أظن أن العمل مع الشخصيات لبناء الثقة والاسترخاء للوصول إلى ما نطمح إليه يرفع من بلاغة الصمت. ولربما لاحظت أن الكثير من الشخصيات لا تبتعد الكاميرا عنهم بمجرد أنهم أنهوا كلامهم، مما يبرز الرغبة الواضحة في توزيع الاهتمام على المفهومين لدى طرفي العلاقة.
وتتابع المخرجة قائلة: ربما يمكننا سؤال الشخصيات في حال أثرت علاقتي الشخصية بهم على الفيلم، لكن حتى هذه العلاقة فإنها تنوعت من انعدام المعرفة بشكل كلي، إلى المعرفة الجيدة بإحدى الشخصيات، لكن التدرجات كانت عريضة. أظن أن العامل الأساسي هو أن العلاقة مع الموضوع والعلاقة مع الوقت الذي نمضيه سوية، وكذلك طبيعة تورّط الكثير في التفاصيل التي جمعتنا تحت سقف واحد، في كثير من الأحيان يلعب ذلك الدور الأساسي، كما أنه لم يكن التصوير جزءا عملياتيا بالنسبة للشخصيات، ما خلق الحميمية بيننا.
___
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *