*محمد وردي
ربما يكون الحب من أكثر النزعات الإنسانية أصالة، سواء على مستوى الرهافة والشفافية، أم على مستوى الجمال والمسرة. وكتب عن هذا الأمر الكثير، وسيكتب أكثر وأكثر، مادام الإنسان يدب على صفحات الوجود، أو ما دامت قيمة الحياة رهينة بالحضور الإنساني. ومع ذلك تختلف ضروبه وتهاويمه، وتتعدد دروبه وتلاوينه، باختلاف وتعدد البيئات الحاضنة للإنسان. ما يعني بداهة أن يكون للحب في البيئات الخليجية حكايات أخرى، تتميز بخصوصيات لافتة ومدهشة على كل المستويات.
رواية «كوخ الشيطان» للكاتب محمد الحبسي، الفائزة بجائزة تشجيعية ضمن «جائزة الإمارات للرواية» في دورتها الثانية العام الماضي، الصادرة عن دار «كُتاب» للنشر والتوزيع، تقدم وجهاً آخر للحب، تتقاطع فيه سيرة الوفاء مع الأقدار الفائقة بأحزانها ومراراتها في سياقات غرائبية وأسطورية تحبس الأنفاس، وتستحوذ على المشاعر من بداية الحكاية حتى نهايتها.
الرواية تحكي قصة الشاب الثلاثيني ناصر وزوجته عفراء، التي ماتت كمداً على ابنتها البكر مريم، ذات الإثني عشر ربيعاً، تلك الفتاة النبيهة، التي بهرت مدرساتها بذكائها وتوقدها المميزين، وخطفت اهتمام والدها برقتها وشفافيتها، مع كل وداع صباحي، «لا تتأخر علينا، نحن بانتظارك». إلا أن عودها لم يكتمل، فخطفها الموت بعد مرض عضال استنفذ كل مدخرات الأسرة. ما أرغم عفراء على بيع «محزم الذهب»، أو ما يمكن أن نسميه «أيقونة الحب الخالد». ذلك لأن المحزم الذي ورثته عفراء عن أمها، وكان بنيتها أن تورثه لابنتها البكر مريم، هو ليس مجرد مصوغ ذهبي ثمين، كما أنه ليس مجرد تحفة فنية، أو «أنتيكة تاريخية» فريدة فقط، وإنما هو أشبه بإرث ثقافي ينطوي على رمزيات باذخة، ودلالات فارهة على كل المستويات الجمالية والإنسانية. فالمحزم يحكي بمعنى من المعاني، سيرة التفاني والإخلاص للحب، الحب الذي جمع بين أمها وأبيها، ذلك الحب الذي تميز بوفاء نادر للمحبوب، فلم تهزه عاتيات الأعراف، ولا عاديات التقاليد الاجتماعية في المجتمعات الذكورية، التي لا تتهاون مع مسألة التخلي عن الوريث الابن، «الذي يرثك ويحمل اسمك من بعدك»، طالما أنت تاجر ميسور الحال، وطالما هي قد جف رحمها وضربه اليباس بعد ولادة عفراء؟، هذا فضلاً عن المسوغات الشرعية، التي تفتح الباب واسعاً للرجل المزواج في النكاح «مثنى وثُلاث ورُباع». ومع ذلك رفض الأب وقاوم كل الضغوطات أو المغريات حتى وفاته. وهو الأمر الذي جعل الاحتفاظ بالمحزم بالنسبة لأم عفراء مسألة وفاء نادر في زمن يعزُ فيه الوفاء بمثل هذه المسائل. ولذلك خبأته بهدب العين، ولم تفرط به حتى أيامها الأخيرة، فقدمته لوريثتها ابنتها الوحيدة عفراء. هذا من جهة أولى، ومن جهة أخرى يروي المحزم سيرة الوفاء للصداقة الصدوقة، التي دامت سنوات عدة بين الأب وتاجر هندي. وكان بنية عفراء أن تورث المحزم لابنتها مريم، لعلها تحظى بما حظيت به الجدة من وفاء، وما تحظى به الأم عفراء من حب في قلب ناصر. إلا أن للأقدار حكاية أخرى، بدأت عقب دفن عفراء، وعودة ناصر إلى البيت، الذي بدا خاوياً تصفر به رياح الوحشة، ما جعله يلوذ بغرفة الحبيبة، مستعيناً على شر البلاء بتسقط أثر لحظات الصفاء الهاربة على حين غرة، ومستعيداً حضورها في تهاويم الصور الآفلة، وضوع الورود الذابلة على طاولة زينتها، وعبق العطور الحافلة بخزانتها وملابسها، حتى وسادتها وشراشف سريرها، حينما وقعت عيناه على «العلبة السوداء»، التي كانت تحتضن حتى أمد قريب ما كانت عفراء تصفه بأنه «من ريحة أمي»، فقرر استعادة «محزم الذهب» مهما شقّ الطلب وعزّ الثمن. وهو الأمر الذي يدفع بالحكاية إلى سياقات فانتازية، تجمع بين الممكن أو المحتمل في الواقع، وغير الممكن أو اللا محتمل، المشرع على الخيال الجموح وفضاء الأسطورة، المضمخ بأدخنة البخور، وطلاسم السحرة وخفقات النور في الظل المسحور، فتبدو الأمكنة عزلاء خاوية حيناً، وأحياناً تعج بمردة وشياطين تمور وتفور بجنبات قصر يبدو للوهلة الأولى وكأنه مهجور، بسطوة الصمت والسكون، الذي يستحيل فجأة إلى آذان وعيون ترصد حركة الغريب الوافد على المكان من مسافات بعيدة، فتتنبأ بأغراضه وأهدافه، وتضع الخطط والاستراتيجيات، التي تجعل الأمور تنتهي إلى نتائجها المرسومة بعناية فائقة. ويجري كل ذلك في مناخات جبلية، تنطوي على غوايات سردية ماتعة، يتداخل فيها توصيف الأمكنة ومناخاتها، مع طقوس المروءة والنخوة وحماية الغريب ومد يد العون له، مع مقتضيات العادات والتقاليد في الضيافة وسبل تخزين الغذاء، ومجمل إيقاعات الحياة اليومية في تلك البيئات الساحرة.
بنية السرد
تقوم لغة السرد في نص «كوخ الشيطان» على التداعي الأفقي، أو ما يعرف باسم «السرد الخطي»، بحيث تتوالى الأحداث على إيقاع واحد أو نسق منتظم. وهو أسلوب لا يخلو من الرتابة والملل في الأغلب الأعم، ولذلك يعتبر من أقل الأساليب السردية تشويقاً وإثارة، وبخاصة لجهة إمكانية توقع الأحداث، أو تأويل النهايات قبل وقوعها، إلا أن الكاتب محمد حبسي تجاوز الملل في النص من خلال الدفع بالأحداث بوتائر متلاحقة، وذلك بالتناغم مع توليد أو تخليق الشخصيات وانفتاح الحكاية على سياقات متعددة، بعضها يروي حكايات الموروث الثقافي من ألوان الفنون والحكايات الشعبية، كما في الفصل التاسع، حيث ينتقل مشهد الحوار في رحلة الصعود الجبلي بشكل مباغت بين ناصر (البطل) والشاب هزاع الخبير بشعاب المنطقة، الذي آثر ألا يترك هذا الغريب دون دليل، حيث كان يدور الحديث بينهما عن عادات أبناء الجبال في جني العسل البري، بالتأشير إليه مسبقاً قبل موسمه بعلامات خاصة، تحفظ الصيد لصياده الأول، فيقول الراوي: «نحن نضع علامات، فمثلاً إذا كانت خلية العسل على الشجر نربط أحد الأغصان بشريط قماشي أو ما شابه ذلك، فمن يأتي بعدنا يحترم الخصوصية ولا يمس شيئاً منه. وهكذا أيضاً في الكهوف.
ولكن ما الذي يضمن أن أحداً لن يبدل موضع العلامات؟.
هذا أمر متعارف عليه، ولا يفعلها إلا الدنيء.
وفجأة تتعالى أصوات تشق الجبال، وكأنها تزلزلها.
يا إلهي ما هذه الأصوات يا هزاع؟.
يقول ناصر ذلك وتدور عيناه حول الجبال المحيطة به، دون أن يرى شيئاً، سوى تلك الأصوات»!. ما يمهد لانتقال الراوي في الفصل العاشر في الحديث عن فن «الندبة»، التقليدي، الذي تمارسه القبائل الجبلية في الأعراس.
كذلك يتميز أسلوب السرد في «كوخ الشيطان» بالقدرة على نصب الفخاخ لاختطاف المتلقي، بحيث يرمي له في متن كل فصل من فصول النص أكثر من «طُعم»، ويجعل أقواها وأكثرها غواية في الخاتمة، أو ما أحب أن أسميه «القَفلة المدهشة»، التي ينهي بها كل فصل، حيث تنفتح الحكاية على سياقات فانتازية تخطف الأنفاس. ما يشد المتلقي بوثاق لا يستطيع الفكاك منه، كما في نهاية الفصل الثاني عشر (ص 84)، حيث ينتقل السرد على حين غرة من وصف بدائع الخلق وتصوير السفوح والمنحدرات والقمم والمنبسطات، وشرايين الماء التي تتدفق من شقوق الصخور، وكأنها قطرات مقطرة من الندى، فيقول الراوي: «ولكن قطع صعودهما نحيب رج الصخور صداه!. نحيب امرأة. ولكن أين هي؟. يلتفتان شرقاً وغرباً وتدور عيونهما في كل الاتجاهات» من دون جدوى«!.
يتكرر الأمر عينه في جميع فصول الرواية، فتتزايد إيقاعات التشويق إثارة وجذباً للمتلقي كلما توغل الراوي في حكاياته الفانتازية، رغم أن النص في»كوخ الشيطان» يتوكأ على الحكاية الشعبية بكل مخزونها الأسطوري أو الغرائبي. وهو ليس بالأمر الجديد على الرواية، إلا أنه يبدو وكأنه جديد عندما يجري تقديمه بمذاقات ونكهات خاصة، تميز ثقافة أبناء البيئات الجبلية.
________
*الخليج الثقافي