عبد الرحمـن بـدوي.. وجودي احترم العقل وعشق الحرية




د. مصطفى جودة

جعلوني قارئاً ذاكرة أمة يجب ألا تنسى النوابغ الذين يبرهنون على عظمتها بكتاباتهم وروائع أعمالهم‏،‏ ويستودعون تلك الروائع في بنوك التاريخ لتكون فخراً لها ولهم وللأجيال القادمة‏.

ومن هؤلاء الفيلسوف المصري الكبير الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي ولد في الرابع من فبراير عام1917، وقد عاش الدكتور بدوي معيشة طالب العلم ومعيشة العالم الزاهد، وكلتاهما صعبة. وكان باستطاعته أن يعيش حياة الرفاهية، فهو ابن العمدة الثري الإقطاعي، إلا أنه اختار المعرفة ودروبها الصعبة. وبعد حياة حافلة ترك لنا كنوزا لا تقدر بثمن، وتزيد من محتوانا الثقافي والحضاري إلى الأبد، فهو المؤلف والمترجم لأكثر من 150 كتاباً قيماً في مجالات الدراسات الأوربية، خلاصة الفكر الأوروبي، والدراسات الإسلامية، والتراجم، ومجموعته الشعرية، وكتبه الإبداعية.
المتأمل في قدراته الهائلة في التأليف والإبداع يدرك بسهولة أنه أمام عملاق علمي جبار. يسرد لنا في كتابه: سيرة حياتي- الطبعة الأولى 2000- المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ما قام به من إنتاج علمي وفكري في الفترة من1960 وحتى 1966: المثالية الألمانية، دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، مناهج البحث العلمي، الفلاسفة والسلام، في الشعر الأوروبي المعاصر، المنطق الصوري والرياضي، دراسات في الفلسفة الوجودية، مؤلفات الغزالي، مؤلفات ابن خلدون، ترجمة دون كيخوت، الوجود والعدم، النقد التاريخي، مسرحية دائرة الطباشير، مسرحية علماء الطبيعة، ثلاث مسرحيات تأليف جارثيا لوكا، مسرحيتان لبرشت، ابن عربي، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، الفن والنور واللوحات، فلسفة الحضارة، فضائح الباطنية، رسائل ابن سبعين، الطبيعة لأرسطو، في السماء والآثار العلوية، تلخيص الخطابة، فن الشعر، الفصل الخامس بفن الشعر في كتاب سراج البلغاء لحازم القرطاجي.
كان واثق القلم يمشي بين العظماء بموهبته أستاذاً ومبدعاً. هو رابع أربعة فرسان مصريين في القرن العشرين، يكفونها عند التحدي: نجيب محفوظ، جمال حمدان، وأحمد زويل، وهو؛ عاشق الوجودية وكان فيلسوفها في مصر، وبرر ذلك في كتابه: سيرة حياتي، بأنها توافق عشقه للحرية. له كتاب يمثل أحد معالم قدرته وتبيانا يدل على رساخته في العلم كتبه في سنواته الأخيرة: الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، ذو قيمة علمية رفيعة، طبع بالفرنسية عام1989، ونشرته بعدها بالعربية مكتبة مدبولي الصغير عام 1998.
تكمن أهمية الكتاب في أن الدكتور بدوي كان يجيد ثماني لغات أجنبية مكنته من البحث والاستقصاء، وخصوصاً في مصادر العصور القديمة والعصور الوسطي وآدابهما ووثائقهما التي تتوافر فقط في المكتبات الأوروبية الشهيرة، حيث قضي غالبية عمره بفرنسا والتي اطلع عليها كلها، فتمكن من معرفة لغة القوم الذين حاربوا القرآن منذ القرن الثامن الميلادي وحتى القرن العشرين. ما قدمه في هذا الكتاب لا تستطيع أن تقدمه نخبة متخصصة من جامعة عالمية أو عدة جامعات.
يقع الكتاب في 188 صفحة، إضافة إلى صفحة الفهرس، يقول عبد الرحمن بدوي في المقدمة: كان القرآن باعتباره الأساس الجوهري للإسلام منذ النصف الثاني من القرن الأول للهجرة السابع الميلادي، هدفا رئيسيا لهجوم كل من كتب ضده، سواء من الغرب أو من الشرق. وقد وجه هذا الهجوم في البداية على النسق العام للقرآن ككل يوحنا الدمشقي (750650)، في كتاب بعنوان: الطوائف. وبسقوط القسطنطينية على يد المسلمين الأتراك عام 1453، توقف كل الجدل البيزنطي ضد الإسلام، وانتقل مركز ثقل الهجوم إلى أوروبا المسيحية التي رفعت اللواء.
يستمر الدكتور بدوي في سرده للمصادر التاريخية وبطون الوثائق النادرة، ليعرفنا بجميع تفاصيل الذين حملوا راية الهجوم والذين أخذوا على عاتقهم النقد الشديد للإسلام عامة وللقرآن خاصة:
لم تظهر أول دراسة مفصلة ضد القرآن إلا في العقد الأخير من القرن السابع عشر، في الدراسة التي قام بها لودفيكو مرعشي (17001612)، حيث يتطرق مرعشي، الذي كان يجيد العربية والسريانية والعبرية، لحياة محمد من خلال المصادر العربية… لكن يجب القول إن هذا العمل غير دقيق ومليء بالأخطاء الفادحة والحجج الضعيفة التي تفتقر إلى الدقة العلمية، ونفس هذه الأخطاء سنجدها بدرجات متفاوتة في كل البحوث والدراسات حول القرآن التي قام بها المستشرقون خلال القرنين التاليين لظهور كتاب مرعشي.
هذا ما أثبته عبد الرحمن بدوي في كتابه الأصيل، الشامل لتلك الادعاءات منذ البداية وحتى القرن العشرين، واستطاع أن يستنبط ويستنتج أن الأسباب التي كانت وراء ضحالتهم تكمن في الأساس في عدم معرفة هؤلاء المستشرقين للغة العربية، وضعف مستواهم في آدابها، وأن معلوماتهم جميعاً مستقاة من مصادر عربية ناقصة وضحلة وغير كافية، وأن ما يحركهم هو دافع الضغينة والحقد على الإسلام مما يفقدهم الموضوعية ويعمي بصيرتهم، وأنهم كانوا مدفوعين بالتبشير والتعصب المتحفز ضد القرآن.
طابع جدلي
ويختم مقدمته بمنهجه الذي اتبعه في كتابه بقوله: ومع أن موضوعنا يتسم بطابع جدلي، إلا أننا اتبعنا منهج علم اللغة الصارم، متوخين أكبر قدر من الموضوعية، يحدونا في هذا هدف واحد ألا وهو فضح بعض أشباه العلماء الذين خادعوا الكثيرين في أوروبا وغيرها…. لكن القرآن خرج منتصرا على كل هذه الهجمات.
يبدأ الفصل الأول في كتابه بشرح مفهوم لفظ أمي، المتعلق بالنبي عليه السلام، فيفند آراء المفسرين المسلمين والمستشرقين القدامى والمحدثين ويخلص إلى تفسيره، فيقول: كلمة أمي مشتقة من كلمة أمم وهي جمع أمة، ومعناها: عالمي، صالح أو موجه لكل الأمم. فالنبي الأمي إذن هو نبي بعث إلى كل الأمم. النبي العالمي إن صح التعبير. أما الجمع أميون والذي ورد أربع مرات في القرآن، فتفسيره شعوب مختلف الأمم أو مجملها.
ثم يتطرق في الفصل الثاني من كتابه الرائد إلى تفنيد التشابه بين القرآن والكتاب المقدس والذي دأب على استخدامه غالبية المستشرقين القدامى والمحدثين منهم.
يقول الدكتور بدوي: بحث المستشرقون على مدي قرون متتالية عن وجود تشابه بين القرآن والكتب المقدسة الأخرى، وراحوا يفتشون في النصوص القرآنية لعلهم يجدون بصمات يستدلون منها على احتمال تأثر النصوص القرآنية بالإنجيل أو التلمود، وتبلورت هذه النزعة في القرن التاسع عشر، حيث اتخذ البحث والدراسة منحني علميا في الظاهر، فنشرت عدة مؤلفات حول هذه المسألة.
شرح تفصيلي
قام الدكتور بدوي بشرح تفصيلي شامل لكل هذه المؤلفات من الكتب ذات النزعة اليهودية، والأخرى ذات النزعة المسيحية، وخلص إلى أن كل هذه المؤلفات تهدف في المقام الأول الي إرجاع أصل القرآن إلى نصوص أخري في الكتب المقدسة. وأن المستشرقين اتبعوا منهجا عاما مفاده أن محمد عليه السلام، الذي يتهمونه بتأليف القرآن، قد استقي واستعار من الكتب المقدسة وشبه المقدسة واليهودية أغلب القصص والصور المجازية والأمثال والحكم.
ويدحض الدكتور بدوي تلك الادعاءات السخيفة باستنتاج رائع: طبقا لهذه المزاعم يفترض إذن في محمد عليه السلام، إتقانه للغة العبرية والسريانية واليونانية. كما يفترض أيضاً أنه قد امتلك مكتبة ضخمة تضمنت نصوص التلمود، ومختلف الأناجيل، ومختلف كتب الصلوات وقرارات المجالس، وكذلك بعض أعمال الأدباء اليونانيين ومختلف الكنائس والمذاهب المسيحية.
ومما لا شك فيه أن هذه الافتراضات التي تطرحها ضمنيا كتب هؤلاء المستشرقين غير معقولة، فحياة النبي محمد عليه السلام معروفة قبل الدعوة مثلما هي معروفة بعدها لدى الجميع، على الأقل في جوانبها الخارجية، فلم يرد قط لدى المعاصرين أو القدامى على حد سواء أن النبي محمد عليه السلام قد امتلك مكتبة ما أو أتقن لغة أخري غير العربية.
تفنيد وحقائق
ومما يلفت النظر كذلك في كتب هؤلاء المستشرقين هو إصرارهم على النظر للقرآن كنص مسروق كلما وجدوا فيه حقيقة معرفية تضمنتها الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية. وكأن على القرآن، حتى لا يقذف بتهمة السرقة أن يحمل في طياته حقائق مخالفة للعلم وللعقول!! وكلما عثر هؤلاء المستشرقون في القرآن على كلمة مشابهة لكلمة أخري وردت في الكتاب المقدس سارعوا إلى استنتاجات كلها خاطئة في أساسها، وإني أتساءل كيف استطاعوا، وهم الذين يدعون العلم أن يوقعوا أنفسهم في مثل هذه السخافات.
يشرع لنا الدكتور بدوي بعقد مقارنات عديدة بين النصوص القرآنية والنصوص التي يستخدمها المستشرقون ويدعون من خلالها أن القرآن أخذها منها، ويتساءل بعد وضعه النص القرآني في مقابلة ومقارنة تلك النصوص، ويخلص إلى أنه لا يوجد أي قاسم مشترك أو تشابه قط رغم ادعاء هؤلاء المستشرقين ومجهوداتهم الجبارة لإثبات مزاعمهم، ومحاولاتهم المتكررة أن القرآن ما هو إلا نسخة مزورة من الكتاب المقدس. يخلص الدكتور بدوي قوله:.. لقد أظهر المستشرقون عبقرية مزيفة في إثبات فرضية خاطئة في أساسها… وأن موقف هؤلاء الباحثين ما هو إلا نتيجة منطقية لتحيزهم وبحثهم المسعور عن بصمات عبرية ويهودية في القرآن.
وقد أفرد الدكتور بدوي فصلاً كاملاً ضد ادعاءات المستشرقين الذين ركزوا على أن أصل الكثير من الكلمات الواردة في القرآن لها جذور عبرية، واستطاع أن يبين بالأدلة كذب تلك الادعاءات، من هذه الكلمات: حطة، المعتكفات، أمر، بركة، تبارك، بهيمة، مثاني، خلاف، رب العالمين، سكينة، صدقة، عزر، قيوم، كفارة، ماعون، منهاج، جبار، رباني، سفك الدماء، قدوس، سورة، نبوة، بغير، عبادة، بور، صديق، جنات عدن، عليون، تزكى.
شرح الدكتور بدوي أن ادعاءات المستشرقين بأن هذه الكلمات ذات أصول عبرية خاطئة وغير صحيحة. إضافة إلى ذلك فإنه أفرد فصلا كاملا لمعني كلمة فرقان والتي ذكرت في القرآن ست مرات، وتناولها المستشرقون بالبحث والتنقيب وأن أصولها عبرية وسيريانية تعني بوركانا أو الإنقاذ، وقد استدل الدكتور بدوي بالتفسيرات الإسلامية والمعاجم اللغوية لدحض مزاعم المستشرقين في هذا الصدد.
فرقان الآيات الست
واستناداً على كل ما ذكر بشأن تلك الكلمة فسر الدكتور بدوي كلمة فرقان: إن فرقان مصدر الفعل فرق والذي معناه التمييز بين الخير والشر، وبين المشروع واللامشروع. وبالقياس نجد أن كلمة فرقان تدل على معيار التمييز بين الخير والشر. ولنطبق إذن هذا التفسير على الآيات الست التي وردت فيها الكلمة:
أولاً: في الآيات 53 من سورة البقرة، والآية 48 من سورة الأنبياء، تدل كلمة فرقان على التمييز بين الخير والشر، وبين الحلال والحرام.
ثانياً: إن المراد من كلمة فرقان في الآية 4 من سورة آل عمران والآية 1 من سورة الفرقان هو القرآن.
ثالثاً: والمقصود منها في الآية 185 من سورة البقرة، والآية 41 من سورة الأنفال التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل في الدين.
وبالتالي نرفض أن يعطي لهذه الكلمة تفسيرا من نوع الإنقاذ أو ما يعادلها باللغات الأخرى.
بعدها أفرد الدكتور بدوي فصلاً كاملاً رداً على مزاعم المستشرق اليهودي ديفيد صموئيل مرجليوث، والذي اعتنق المسيحية في أواخر عمره، والذي وصفه الدكتور بدوي بأنه: جند نفسه طول حياته عدوا عتيدا ضد الإسلام، ودفعه تعصبه العنيف إلى عرض المزاعم شديدة الغرابة لم يكن القصد منها سوي الهجوم على الرسول محمد عليه السلام والحط من رسالته.
فند الدكتور بدوي كل المزاعم شديدة الجهالة التي تميزت بها آراء مارجليوث وكتاباته الموثقة ومنها: أن كلمة مسلم كانت تطلق سابقا على مريدي مسيلمة الذي ادعي النبوة والمعروف باسم مسيلمة الكذاب. يقول الدكتور بدوي عن ذلك: أتساءل كيف وقع مرجليوث وهو في سن الخامسة والأربعين في هذا الخطأ الفاضح؟ ألم يسبق له أن قرأ القرآن أو السيرة أو أي كتاب عن تاريخ الإسلام، وكيف يشتق اسم الفاعل مسيلمة من اسم مسلم؟، فلو كانت لديه أدني معرفة باللغة العربية لتنبه إلى أن النسبة إلى مسيلمة تكون مسيلمياً لا مسلماً، لكن للأسف فإن تعصبه أدي إلى عمي بصيرته.
يدعي مرجليوث أن طقوس الصلاة الإسلامية مرتبطة بطقوس الحرب. وإن لم يكن المسلمون بحاجة إليها لولا أن أقامها المقاتلون وقت الحرب.. ويستنتج أن الفاتحة التي تتلى أثناء الصلوات سابقة للهجرة حيث إن محمد لم يكون جيشا إلا وهو في المدينة.
ادعاء مثير للضحك
يعلق الدكتور بدوي على ذلك بأن هذا الادعاء في الحقيقة مثيرة للضحك، وأنه ادعاء صبياني وسخيف، لأنه يؤكد أن الصلاة فرضت على المسلمين كعمل عسكري، وهذا ما لا يقبله العقل، وسخيف لأن القول بأن سورة الفاتحة سورة مدنية مؤداه أن محمد عليه السلام وأتباعه لم يكونوا يؤدون الصلاة قبل ذلك، مع أن الكتب والأحاديث الصحاح تؤكد أن الصلاة غير جائزة دون الفاتحة التي هي أم الكتاب. وعلى هذا النهج يستمر مرجليوث في ادعاءاته الخاطئة فهو يرى أن صيام شهر رمضان تدريب عسكري. وكذلك تحريم الخمور مرتبط أيضاً بالانضباط العسكري.
وفيما يخص المحرم من الطعام يدعي مرجليوث أن محمد بدلا من أن يضع نظاما للطعام المحرم، لجأ إلى استبقاء الحد الأدنى مما أقره مجمع القدس والمنصوص عليه في الإصحاح 15 مع تحريم لحم الخنزير.
تكمن قيمة الكتاب في أنه يقدم معرفة أصيلة ومؤصلة، ويفتح أبواباً جديدة ويرسم خريطة لتلك الأبواب، ويقدم أبحاثاً رائدة لا بد أن تكمل.
عاد إلى وطنه مصر قبل وفاته بأربعة أشهر عقب سقوطه في أحد شوارع باريس مغشيا عليه، ونقل عقبها إلى أحد المستشفيات في باريس، ومعرفة طبيب فرنسي منه أنه فيلسوف مصري، مما جعل ذلك الطبيب يتصل بالقنصلية المصرية في باريس. رحم الله أنيس منصور الذي قام بدور ومجهود كبيرين في تكفل الدولة بعلاجه هناك وعودته مكرماً ليدفن في وطنه.

ـــــــــــ
* الأهرام المسائي.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *