*سعيد الكندي
هل يجب علينا أن نقف على مفصل كل حكاية وكل قصة من قصص التاريخ وتعريتها على المشرحة؛ لنعيد اكتشاف تكوين الحكاية -الحياكة وملابساتها- وتلبيسها الثوب الذي يقتسمه معاً ما أراده كتاب التاريخ وإملاءات القوة المسيطرة التي تجبر المؤرخين على إخفاء الحقائق خلف المؤامرات؛ لكي تغلب مصالح شخصية ضد أخرى للوصول إلى الأهداف الدنيوية في خضم الصراع بين الحق والباطل كما في كل -الميثولوجيا- التي تقف عليها أغلب الصراعات.
إن ما يحدث الآن في التاريخ المعاصر ليس ببعيد عما حدث في العصور الغابرة من محاولات أكبر تقانة وأوسع نطاقاً من تزويق وقلب الحقائق على رؤوس الرأي العام المغيب وسط الآلات الإعلامية التي لا تنفك تعمل طوال الأربع والعشرين ساعة في بث كل ما يشوش على المتلقي من طمس الحقائق وقلبها وتغليفها بألبسة ليست هي من صلب الحدث في محاولة لاستغفال الجماهير في مسار مخطط له أو غير مخطط له لاسترضاء فئات وتغليب مصالح قطاعات معينة دون أخرى، أو تغيير مسارات ومنعطفات لصالح جهات بعينها ، كما أن ادعاءات الجهات التي تتدخل في جزء من صنع الحكاية أو القصة تزيد من التشويش، وتزيد في رفع نسبة التعقيد لعدم التمكين من القبض على الخيوط الرئيسية للقصة ، فهناك الكثير من الأحداث لم تثبت من قام بها برغم ادعاء البعض بتبنيها، وبالمقابل فإن كبرياء بعض من تتعلق بهم القصة؛ ربما يمنعهم من الإفصاح عن الكثير من هذه الخيوط لاعتبارات عديدة أبسطها الانتقام.
وكما هو جلي فإن الرأي العام سيظل يعيش سنوات عديدة وسط أكاذيب الحكاية بالرغم من بعض المتتبعين لها ومن يتعلقون بها سواء من قريب أو بعيد استطاعوا إثبات عدم صحتها، إلا أن السلطة الأقوى -المهيمنة – ستظل هي اليد الطولى في تحديد متى؟ كيف سيتم إظهارها وإطلاع الرأي العام بنتائجها وما يشابه ذلك؟ -برغم الاختلاف- ما ظهر مؤخراً في عدد من القصص الإخبارية المتداولة براءة الكثير ممن قضوا زهرة أعمارهم في غياهب السجون وهم براء من صلب الحكاية وبرمتها، وأن ليس لهم ناقة في القصة ولا جمل، كما أن قضاء الكثيرين في السجن لسنوات ربما راجع إلى خيوط خفية في القصة تحتم على المتنفذين ومعاونيهم في حبكة الحكاية إبقاء مدة محكوميتهم، إلى حين تتلاشى خيوط كثيرة يكون رد الاعتبار فيها غير مجد، كما يسمح فيها الوقت ذاته إبقاء من يستحق العقاب خارج دائرة الاتهام.
يطالعنا مؤخراً أكاديميو جامعة مانشستر رفضهم قصة أن كليوبترا ملكة مصر القديمة، قد قضت من جراء لدغة أفعى، ووصفوا ذلك بالمستحيل، كما شارك رأيهم علماء المصريات وخبراء الثعابين لعدم معقولية أن تكون الملكة ماتت بواسطة «الكوبرا» المخبأة في سلة التين، كما طعن الأكاديميون في كثير من تفاصيل الحكاية التي من بينها أن قتل الملكة قد تم بثلاث لدغات متتالية مميتة، بالإضافة إلى أن الأفعى نفسها قد قتلت اثنتين من وصيفاتها.
لقد رسخ الإعلام القديم والحديث لقصة «كليوبترا» وأوجد منها قصة أسطورية فريدة، فأصبحت جزءا من الأساطير الشعبية، وتؤخذ سيرتها على شكل ملحمي وخيالي، كما خلط المؤرخون وألبسوا قصتها تلك الحكاية الأسطورية، وقد انتجت هوليوود الكثير من الأفلام – كوميدية، تراجيدية، وتاريخية – التي أخذت بسيرة الملكة الإمبراطورة الفاتنة، والتي دخلت في خضم صراعات الإمبراطورية الرومانية الواسعة. وقد نسبت المصادر الرومانية وما أتى بعدها، بأن وفاتها جاء نتيجة لدغة أفعى سامة، وأن الملكة استخدمت لدغة الأفعى القاتلة كوسيلة من وسائل الانتحار لإنهاء حياتها الخاصة، وما يؤكده دارسو التاريخ المصري وعلماء الزواحف أن المعني بالأمر -الكوبرا- أن تكون هي الجاني؛ الذي من المفترض أن يكون جسمها أكبر حجما لتكون مخبأة كما هو متصور في سلة التين، ويؤكد الخبراء أنه من المتعذر إخفاء هذه الأفعى التي عادة ما تكون طويلة جداً حيث يتراوح طولها بين (5 ـ 8) أمتار تقريباً. وبذلك سيكون من المستحيل استخدام ثعبان لقتل اثنين أو ثلاثة أشخاص الواحد تلو الآخر.
وخاصة أن الثعابين تستخدم السم لحماية أنفسها وللصيد، فهي تحافظ على سمومها وتستخدمها وقت الحاجة حسب قول خبراء علوم الزواحف.
إن هذه الحكايات وما شابهها كان يجب أن تلقي بثقلها على المشرحة منذ زمن بعيد وخاصة في زمن الكشف العلمي والمتطور للعقل البشري ، ولكن كما أسلفنا فإن الآلة الإعلامية كانت ترسخ الحكايات على أنها حقائق مسلم بها ، كما شغلتنا نحن حكايات جداتنا في سردها التي تنطوي على الكثير من الأحداث المشوقة مع توفير عنصر الإبهار، برغم إن ما تمر بها من أحداث -الحكاية- وحبكتها لا تنم عن منطق غير قابل للحساب ، ولكن عقولنا الصغيرة تتكيف مع السرد بين تشكيك وتكذيب، فتأخذها عقولنا الصغيرة آنئذ على أن ما تقوله جداتنا ليس فيه كذب ولا مراء، وأن التشكيك في عقيدة الحكاية من المحرمات التي لا مساس بها .
إن الكثير من قصص التاريخ العربي يجب أن يعاد النظر بشأنها؛ لأنها تحوي من المبالغة ما يكفي، وخاصة في القصص الشفاهي المتناقل أو الذي تمت كتابته، وعلينا إعادة قراءة التاريخ بما فيه الكفاية بالتمحيص والفحص في كل حكاية وقصة ، والوقوف على الاستنتاجات والقراءة الواعية والمقارنة بين المعطيات في سياق الحكاية وتطابقها مع -المنطق- الواقع، وعدم التسليم المباشر لكل ما كتبه المؤرخون المدفوعون بتزويق القصص أو إملاءات الحكام والدكتاتوريات وإرغامهم على كتابة ما يوسع طموحاتهم ويرضي شهواتهم، فعلى الدارسين والباحثين مراجعة الأحداث التاريخية مع الأخذ بمقارناتها بما تتناقله شفاهية الحكايات الشعبية ، وما يرتبط بها من مبالغات لا تخلو من صياغة تبدو أنها محكمة في زمن تعذر فيه بسط التاريخ على المشرحة، وإعمال المشارط في جسد تلك الحكايات، واستئصال ما يمكن استئصاله من أورام تكاد تفتك بجوهر الحكاية، أو ما يتبلغ في جسد التاريخ برمته، ونقض كل ما هو على اعتبار أنه حقيقة – مقدسة- جازمة لا يمكن المساس بها.
_____
*عُمان