*محمد يوب
في قلبي رواية بحجم كتاب في التاريخ؛ تلك هي رواية «في قلبي أنثى عِبريَّة» للأديبة خولة حمدي؛ التي تجمع بين الإمتاع الفني والعمق الفكري والمعرفي؛ إنها رواية مُركبة؛ تجري أحداثها في مدن مختلفة؛ في تونس وصيدا وقانا… تحكي من جهة جانبًا من الأحداث المأساوية التي تعرضت لها مدينة «قانا» اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي وردة فعل جبهة المقاومة التي يمثلها «أحمد» أحد أبطال الرواية، الذي تعرض لحادث إثرَ عمليةٍ فدائيةٍ تسببت له في جرح غائر في رجله؛ دفع به وبصديقه حسان إلى طرق باب أحد البيوت؛ حيث تعيش أسرة يهودية؛ وهي أسرة «سونيا» طليقة رجل تونسي مسلم خلفت منه ابنتين «ندى» و»دانا»، ثم تزوجت بجورج النصراني الأرميني لتبدأ معه حياتها من جديد اعتادت فيها على التشدد في ديانتها اليهودية.
لقد شاءت الصدف أن تبقى صورة ندى التي «ولدت من أم يهودية وأب مسلم»، عالقة في ذهن أحمد وهو طريح الفراش؛ حين كان ميشيل أخ ندى يخيط جرحه الغائر؛ فتقدم لخطبتها من أمها سونيا. لكن شاءت الصدف أن يتعرض أحمد في ما بعد لحادث أفقده الذاكرة وأبعده عن قانا «ما بك يا ندى؟
أقول لك إن أحمد قد عاد أخيرا…
هل هو بخير…
نعم إنه بصحة جيدة…لكنه فاقد للذاكرة»؛ الشيء الذي دفع بصديقه حسان لخطبتها بعد أن دخلت في الإسلام، لكن في وقت من الأوقات استعاد أحمد ذاكرته واستعاد معها خطيبته ندى ليكمل معها مراسم الزواج.
إنها رواية مليئة بالأحداث وبالمفاجآت وتضارُب المواقف بخصوص العلاقات بين اليهود العرب؛ ورفضهم التعامل مع الديانات الأخرى؛ في حين نجد جورج النصراني شديد التفهم لعقائد المسلمين واليهود؛ والمسلمة ندى التي تتأسف للحالة التي يموت عليها اليهودي والنصراني؛ حين قالت بعد دخولها الدين الاسلامي: «رحل ميشال؛ رحل بابا جورج؛ رحلت ماري؛ ورحل الملاكان كريستينا وجابريال؛ رحلوا جميعا مرة واحدة في حادث سيارة أليم؛ رحلوا قبل أن أعلمهم الإسلام رحلوا وهم على ضلال…».
إنها رواية تبرهن على إمكانية التعايش بين الديانات إذا التزم الجميع مبدأ التسامح واستحملَ كل واحد معتقد وأفكار الآخر؛ لأن الدين في الأول وفي الأخير هو دين واحدٌ؛ لإله واحد قالت سونيا لندى: «أنتِ ستظلين ابنتي على أي حال وأنا سأُساندك طالما تدينين بديانة توحيدية»؛ الحقيقة أن الإنسان هو الذي وضع نفسه في زاوية ضيِّقة وبدأ ينظر إلى الآخرين من ثقب مفتاح صدئٍ لا يرى إلا ما تقدمه له هذه البؤرة من الضوء.
إن الكاتبة خولة حمدي لا تكتب الرواية لتخبر القارئ بحقائق لا يعرفها؛ وإنما قدمت له الواقع فارغا لكي يملأه بما يناسب هذا الواقع من حقائق؛ بمعنى إن الروائية والقارئ يكتبان معا هذه الرواية ويملآن بياضاتها وفراغاتها من خلال عملية التلقي والتأويل؛ إنها تفترض القارئ المحتمل لقراءة الرواية؛ ومن خلال احتمالها للقارئ الذي باستطاعته قراءة هذه الرواية قراءة صحيحة، فإنها تتركه بمفرده يغوص في تفاصيلها وفهم عوالمها وما يحدث فيها من تغيرات؛ مستعينة في ذلك على تقنية الوصف المحاكي للواقع وليس على نقل الوقائع الآلية والحَرْفيَّة الخاضعة لقوالب تفسيرية نمطية جاهزة.
إن القارئ لرواية «في قلبي أنثى عبرية» يشعر بأنها روايات في رواية واحدة، أو رواية بأصوات متعددة، ومن خلال هذه الأصوات تتدخل الساردة من الخلف لتُسيِّر الحوارات بين الشخصيات انطلاقا من رؤيتها؛ وكأنها توزع الأدوار على شخصياتها الممثلة؛ وتتابع بتمعن كيفية أداء هذه الأدوار بجرأة عالية.
وفي ضوء تعدد أصوات السرد الروائي ينتج تعدد أصوات المتلقين، لأن القارئ وهو يقرأ النص الروائي فإنه لا يقرأه وهو صفحة بيضاء وإنما يقرأه وهو مشحون بمعلومات مُخَزَّنة في الذاكرة تسمح له بتلقي مشاهد الرواية، من خلال عملية النظير والاستيعاب والاسترجاع وكثير من تقنيات التلقي التي تربط الرواية بشبكة واسعة مما تلقاه وعاشه المتلقي في حياته.
وهذه الدينامية والحركية بين الخطاب الروائي وتلقي المتلقي هي التي تحيي عملية التواصل التفاعلي وهي التي تساعد على ترسيخ النص الروائي في ذهنية المتلقي؛ لأن النص الروائي ليس أحادي الجانب موجها إلى ذاته؛ وإنما هو خطاب متعدد الرؤى كل واحد يقرأه حسب مستواه القرائي والمعرفي، وحسب محيطه الاجتماعي وحالته النفسية؛ لأن السرد الروائي يتحرك أمام القارئ ككلمات لكنها تتخذ في ذهن القارئ شكل صور ذهنية تترسخ في ذهنه، ومن خلال هذه الصور ينتج نصا آخر متخيلا؛ وتتعدد الصور وتتعدد معها القراءات بتعدد التخيلات.
________
*القدس العربي