زمن الحكاية


*محمد إسماعيل زاهر

حكايات من شتى أنحاء العالم نجدها بالعشرات في المكتبات المختلفة، حكايات من كوريا والصين واليابان . . .إلخ، من لغات لم نهتم بها من قبل، حكايات من البحر وعن المخلوقات الوهمية، حكايات بجماليات ومذاق ثقافي متنوع، حكايات شعبية وأخرى عالمية، حكايات لم نعد نهتم بتصنيفها للصغار أو الكبار، حكايات أعدنا طباعتها أو اكتشافها مرة أخرى، أو ترجمناها ثانية، طبعت في زمن لم نكن نهتم فيه بالحكي كثيراً .

لقد أصبح اصدار الحكايات ظاهرة تستدعي الانتباه، ومما يكسب هذه الظاهرة زخماً مضاعفاً، تلك التنظيرات التي تقال حول مفهوم الحكاية، فضلا عن معجم صحفي “نقدي” يوظف مصطلح “مفردة” الحكاية في استخدامات شتى، بل يمكن القول أن تلك المتابعات تكتب عن أي عمل أدبي مركزة بالدرجة الأولى على كلمتي الحكاية والسرد، وهنا لا فارق كبير بين الرواية والقصة والمسرح، وبات هناك من يضمن كتاباته التاريخية والسياسية والإجتماعية ما يؤشر إلى “الحكاية” .
عندما نقرأ أي عرض لعمل روائي، مسرحي، تلفزيوني أوسينمائي، سنجد البطولة للحكاية، سنلاحظ اهتماماً واضحاً من قبل الكاتب برصد قدرة مؤلف العمل على التمهيد للحدوتة وتضفير الأحداث، ثم إيصالها للذروة، سنعثر على ذلك الاحتفاء بكل من كتب حكاية تمتعنا ب”بساطتها” وتلاحق وقائعها، وتشابك تلك الوقائع، ويتزايد ذلك الاحتفاء كلما استطاع المؤلف تلمس ثيمة جديدة لحكايته، أو أضاف إليها ما يثقفنها أو يكسبها أهمية ما إرضاء لكل الأذواق، فهناك الجمهور والناقد والمثقف وكل من هؤلاء لابد أن يشعر بأن المنتج المعروض عليه يلبي ما يريده، طالما نعيش في حالة “شو” ثقافي منذ سنوات عدة .
تفرض ظاهرة ” الحكاية” مجموعة من الملاحظات والأسئلة، وتفرض أيضا على المتابع ربطها بمناخ يريد الجميع فيه أن يحكي، هو الحكي لمجرد الحكي، والذي يمتلك موهبة أعلى وقدرة مميزة على قص الحدوتة هو من أصبحنا نصفه بالمبدع .
لم يكن الصعود المفتعل للرواية هو السبب الرئيس وراء الصعود بالمحكي، ولكن أيضا الرغبة في البوح بالمكبوت واللامكبوت في وسائل الاتصال الاجتماعي، وعثور البشر، على أختلاف وعيهم الثقافي، أخيراً على طرائق مغايرة للتعبيرعن أنفسهم، ولم يجد المثقف أمامه من طريق إلا الانخراط، طوعا بفعل التقليد أو كرها استجابة للصعود الجماهيري، في ما أطلق عليه البعض “الثقافة الثالثة”، وهي نوع جديد من تعريفات الثقافة ينتظم في حزمة فضاءاته وتجلياته مزيج من الثقافة الرفيعة والشعبية والإعلام وثقافات المهمشين، حيث يستحيل في هذا “النوع” الثقافي الجديد التمييز بدقة بين مكونات هذا المزيج، ولكننا نلمح الحكاية كامنة هنا وهناك، قابعة في زوايا وأركان هذا ” الخليط”، تكتسب قوة مضاعفة في وسط ثقافي لم يجهد نفسه يوما بتحديدات واضحة تميز بين الشعبي والرفيع، الأصيل والوافد، الفكري والجمالي . . إلخ، ظل يراوح بين هذه الثنائيات دائما، من دون الحسم أو حتى الخروج بوصفة تجمع بينها، جاءت الحكاية لتريح آلته الفكرية شبه المعطلة، ليصمت ذهنيا وهو مطمئن الضمير إلى إنجازه الهزيل، جاءت الحكاية لتتماهى مع استكانة إلى ما روج لزمن حول الموروث الشعبي في أقصى اليمين، ولتتماس مع نقد نسوي سخيف صدعنا بالحكي الشهرزادي في أقصى اليسار، جاءت الحكاية لتخفي ضعفا واضحا في تقنيات العمل الأدبي الأخرى مثل: المكان والزمان والشخصيات والبناء واللغة . .إلخ، ولتخفي ضعفا في فنيات الأعمال المرئية تتعلق بالصورة والآداء والأخراج .
هل الرواية أو القصة حدوتة؟، سؤال يطرحه ذلك الزمن الصاعد بهما معا، ويطرحه الاستمتاع الفائق بروايات تصدر تباعا ونتلمس فيها تلك الحكاية المحبوكة الصنعة بصورة لا مثيل لها في أزمنة سابقة، ولا يعلق في الذاكرة في أعقاب مطالعة الحدوتة أي شخصية: تشعر، تحس، تتأمل، تتألم ، تفكر، ولا يمكن استعادة جملة قالها هذا أو ذاك، فالبطولة في الحدوتة غالبا ما تكون جماعية، وفي البطولة الجماعية يبهت الفرد والألم يطال الجميع بصورة مكثفة وعابرة ودائمة ومكررة لا خصوصية فيها، لا لحظة للتوقف والتقاط الأنفاس والحلم بالتغيير، ويتميع المكان “كان ياما كان”، ويشحب الزمن “في سالف العصر والأوان”، ولا يمكن العثور على تلك اللغة سواء المترعة بالجماليات أو الإيحاءات أو المفتوحة على آفاق التجريب المختلفة، فالجمال والإيحاء والتجريب . .إلخ، كلها أصبحت مخصصة للحكاية .
أسئلة أخرى عديدة تفرضها “الحكاية”، ولكن الأهم فيها ما ينتمي إلى ما يمكن أن يضيفه التركيز على الحكاية إلى الرواية أو القصة، إضافه لا تقتصر على البناء والآليات والتقنيات وحسب، ولكنها تمتد إلى الشكل أيضا، بمعنى هل يؤدي الأهتمام الزائد بالحدوتة إلى تغيير ما في الشكل المعروف للعمل الأدبي؟ أو على الأقل هل نحن على أعتاب مرحلة الحكي في الأدب؟ وهل “الحكاية الجديدة” نفسها أضافت ما هو مغاير ولافت إلى تلك الثيمات الحكائية التي عرفناها سابقاً؟
هناك العديد من الأسئلة التي تتعلق بمرحلة ثقافية جديدة نعيشها وتؤثر فيها الكثير من المتغيرات، أسئلة يتقاطع فيها التكنولوجي بالمعرفي، النقدي بالنظري، أسئلة بقيد الانتظار تحتاج إلى من يطرحها أولاً قبل أن يقدم إجابات مجانية ومعروفة سابقاً .
________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *