*كتابة وحوار: أسعد الجبوري
عندما عثرنا عليه بين مجموعات من التماثيل الحجرية المنتصبة على طرفي الاتوستراد الممتد من نهر الشوك إلى مسرح الأسلاف، سرعان ما استوقفنا مبتسماً، وهو يطلقُ بوجوهنا نظراته الشبيهة بكرات زجاجية متسخة بذلك الدخان الذي كان ينبعث من سيجارته المحترقة بين شفتيه كتلال مسافرة.
في البدء… أدركنا أنه البياتي لحماً وشحماً وفحماً، فقد كان واقفاً على جهاز طابعة قديمة من طراز «رونيو»، وهو يسحب الأوراق مطبوعةً بقصائده التي كان يقوم بتوزيعها على المارّة من نزلاء تلك المنطقة الباردة. كان الشاعر عبد الوهاب البياتي في تلك الأثناء منشرحاً بكثافة لم نألفها به على الأرض. كان إلى يمينه جمهرة من شعراء مربوطين بأصفاد حديد وكلبشات. وإلى يساره كتّاب ونقاد وغاوون ينتظرون الاستماع إلى صوته وهو يملأ وادي العقارب. كان الرجل يريد من الجميع تعلم الشعر بطريقته الخاصة. لذا كانت بيده عصا غليظة. وعلى خصره مسدسٌ تعلق بحزامٍ حديدي كان يمسك له بنطلون الجينز. كنا في وضع خرافي. طقس تتجاذبُ فيه الحيرة مع الدهشة مع الجنون مع البدع التي تم تشريعها من قبل شاعر، طالما سُمّي بعاشق الصوفيين، وتابع نارهم في الدنيا. وها نحن نراهُ هنا في العالم الآخر شاعراً مُحتفلاً بأجراسه اللغوية من دون خوف أو نزاع مع أحد. يقتحمُ ويشتمُ ويبتكرُ أدوات التشهير بخُصُومه من دون حدود. تقدمنا منه بالسؤال:
■ هل تعتقد بأنكَ عشت طويلاً على تلك الأرض ؟
ـــ ومنْ قال لك بأنني غادرت الأرض بشكل رسمي وتام؟!
■ تعني أن البياتي قسّمَ جسمهُ على اثنين: نصف للأرض ونصف للسماء؟!
ــ لا. ولكنني أنشطرُ وأتشاطر في الوقت نفسه حسب الرغبة. فمرة هناك ومرة هنا. والأمكنة متعددة، لا تنحصر بالأرض ولا بالسماء وحدهما. هناك عوالم مختلفة جمّة.
■ تقصد عوالم الأساطير التي سبق وأن كتبت عنها في قصائدك؟
ـــ تلك أساطير غاية في الضعف والخواء واللا معنى. أنا مارست الكتابة حولها، ثم تركتها لبدر السياب عن قصد، ليغرق بغبارها وحده، وينتهي مريضاً بسّل رموزها الوهميين.
■ تقول هذا عن بدر لأنكَ فشلت في احتواء رموز تلك الأساطير شعرياً، أم بسبب نزعة الانتقام من غريمك الشعري السياب؟
ـــ يا معوّد. هو بدر بيه حيل حتى يكون غريماً لي أو لأحد. هو ما قدر يتحمل ثقل الأساطير على الورق. لذلك لا تدع الأفكار تأخذك بعيداً.
■ ثمة نقاد يقولون: إن شعر عبد الوهاب البياتي غنيمة حرب الشتائم والمعارك المتبادلة ما بينه وبين خصومه في العالم العربي. ما مدى صحة ذلك؟
ـــ لم يسبق لي أن خضت حرباً مع فئران. وكل شتائمي لتلك الجماعات والقبائل الشعرية الغارقة بالتخلف والبداوة والاستعراض، لا تخرج عن قواعد العروض.
■ ماذا تسمي معاركك مع أدونيس ونزار قباني والسياب والغالبية العظمى من الشعراء العرب. أكانت تلك مناوشات في الأوزان مثلاً؟!
ـــ هل شهدْتَ موت أحدهم؟
■ أنا لا. ولكن شاعرة مثل لميعة عباس عمارة اتهمتك بمقتل السياب ونزار قباني. فما كتبته ميسون البياتي (ابنة شقيق الشاعر) في موقع «الحوار المتمدن» بأن الدكتور عبد الإله الصائغ، استند إلى الشاعرة لميعة عباس عمارة التي قالت: إن البياتي «حارب بدر حتى قتله وحارب نزار قباني وكان سبباً في النوبة القلبية التي انتهى بها نزار في المستشفى لأنه شتمه بقوله: لولا المطرب كاظم الساهر لم يُعرف نزار قباني». هل كانت تلك المعارك بروفات قتال لمعارك لاحقة ستنفذها هنا في السموات مثلاً؟
ـــ من غير المستبعد أن يحصل ذلك. فأنا لا أحبذ دور النعامة. المواجهات جوهر العمل الفني، خاصة في ما يتعلق بحداثة الشعر وعوالمه المفتوحة على النار والجنون والروح. وأنا الآن مشغول بترتيب أوضاعي هنا، وعقد صفقات مع بعض الكائنات الموجودة. فالانتقام من الخصوم الضعفاء جزء من الإبداع الشعري.
■ ولكن البياتي لم يكن فلاحاً حداثوياً بالقدر المميز، فأنتَ لم تحرث تربة الشعر العربي. ولطالما غطيتَ على بُرودَتك اللغوية بحرارة صداقات لشعراء عالميين! ما ردّك؟
ـــ ليس صحيحاً هذا الذي تأتي على ذكره، أو ذلك الذي يأتي على لسان سماسرة الكلمات في الأسواق الشعرية. فأنا شاعر تجاوز عنق الزجاجة بعد أن ترك فيها شعراء أرامل وأنصاف شعراء من معدمي الموهبة والصنعة والجلجلة.
■ هل الشعر برأيك صنعة أم دهاء؟
ـــ الشعر الذي أعرفهُ، ما يزال غريباً على الكثيرين، ومجهولاً عند حشود غير قليلة من شعراء ما زالوا يعتبرون الكلمات وحدها هي ما تقوم عليها النصوص والقصائد.
■ وبماذا ترى نفسك مميزاً عن الآخرين؟
ـــ أنا بعمقي شاعر صوفي.
■ وهل وجدتَ بالصوفية محطة وقود لكل ما هو شعري في داخلك مثلاً؟
ـــ الصوفية نارٌ هادئة يمكن للمرء أن ينضج على حرارتها بالتدريج، حتى يصل إلى مرتبة شعرية، لا يتحكم فيها الوعي بالمطلق.
■ ذلك يمكن أن يحدث لمتعاطي المخدرات. فهل يمكن اعتبار الصوفية شبيهة بالمُخدر؟!
ـــ ثمة خط أزرق ما بين الصوفية والمخدرات. تذكر ذلك على الدوام.
■ كيف يمكن رؤية الخط الأزرق؟ هل تعني أن بإمكان الشاعر خوض تلك التجربة بواسطة الخمر؟
ـــ ما من كأسٍ لا يقودُ المرء إلى التعمق في الوجد وفي وحدة الوجود. وما عليك إلا أن تسأل ابن عربي عن ذلك.
■ هل كان إفراطك في الخمر بسبب انتكاساتك في الحب؟
ـــ لم أفكر بحب أحد غيري أنا. فبعد أن تورطت بحب أكثر من امرأة، سرعان ما وجدت نفسي حصاناً هرماً يجرّ عربة مليئة بالأعشاب والأسمدة ورؤوس مقطوعة لخراف لا أعرف من قام بقتلها. لقد كنت أبصر الحبّ دون أن يبصرني. تلك مهنة الرائي الذي ما زال يتمتع بالسكن في جوفي حراً طليقاً.
■ وعائشة التي تتربع على عرشك الشعري! أليست هي تلك المرأة التي حاولت خداع الآخرين بها وبجنونها الغرامي، مع أنها من نسيج الوهم النرجسي ليس إلا؟!
ـــ هي امرأة للشعر وحسب. ولكن ذلك لا يحرمها من أن تكون كياناً رديفاً للأساطير التي نخترعها بين الفينة والأخرى بسبب حجم التدهور الذي يرافق سجلنا العاطفي.
■ تعني أن البياتي صانع أوهام نسائية؟
ـــ لم يسبق لي أن جرّبتُ حباً خارج الكادر العائلي. وأغلب الشعراء هم من فصيلتي، يدعون البطولات الغرامية، فيما تتمددُ تحت ثيابهم الصحارى، وتكثر الفئران والثعابين والقرود التي لا تمارس إلا العادة.
■ هل تدرك بأنك أفلست حباً في الدنيا وفي الآخرة على حد سواء؟
ـــ أنا هنا بمثابة مفوض عام لدائرة تصفية الخلافات بين الشعراء القادمين إلى الأرض الجديدة. لذلك لا يهمني ما كنت عليه في قديم الزمان؟ ولا يمكنني أن أطرح سؤلاً على نفسي: كم كان الحبُ شأناً بهلوانياً في حياتي السِّرّية؟
■ حتى لو رأيت طيفاً لأدونيس هنا؟
ـــ أدونيس مثل الطُّحْلُب في المزارع الشعرية، ينمو من خلية وحيدة. وقد انتهى بلغم من ألغامه النفسية، وليس على أيادي النقاد الذين يتبارون بكتابة مقالاتهم عن رماده الشعري الذي سبق أن ذهب مع الجحيم.
■ أدونيس ليس وحده عدواً تقليدياً في سجلاتك، بل هناك الكثيرون. وتكاد صفحات أرشيفك تمتلئ بمنْ هم في خانة الحذف أو الشطب أو التغييب. هل تستمد من تلك العملية الالغائية لذّة ما؟
ـــ لم أضع أحداً من الشعراء في خانة العداوة. ولكن أغلبهم يتقاتلون على سطور كتبي، فأضطر أن أهزّ حبال الغسيل، لينتهي بهم المطاف قشوراً على الأرض.
■ أليست هذه نرجسية قاتلة؟!
ـــ ومن هو الشاعر الذي يستطيع أن ينفي عن نفسه صفة النرجسية. نحن أغلبية شعرية مصابة بهذا الداء النفسي الأناني، وخلوّ أحدنا منه هو خلو من الشعر بالدرجة الأولى.
■ تعني أن العمق الشعري لا يتم لغوياً دون النرجسيات؟
ـــ بالضبط. وأنا بطبيعتي لا أخاصم شاعراً أرضياً من هؤلاء الذين جئت على ذكرهم. كل أعدائي هم من فرسان الأساطير وكائنات الغيب التي لم يصل إليها شاعر غيري.
■ ثمة خيط عنصري في كلامك هذا. فبماذا يرد البياتي!
ـــ ليس الشعر مزرعة للخضروات. هناك شعراء قدموا من الريف العراقي، ولا يستحقون نيل صفة شاعر. أعظم ما كانوا يستحقونه في حياتهم هو حمل الأوراق وتنظيف مناضد الكتابة ونفّض الغبار عن الكتب والقواميس وملابس شعراء المدن.
■ ولكنك كنت ماركسياً ومبشراً بثورة الفقراء ومسانداً للمعدمين. ألا تتذكر ما كتبته يوماً: «أنا عامل، أدعى «سعيــدْ»/ من الجنوبْ/ أبواي ماتا/ في طريقهما إلى قبر الحسين/ وكان عمري آنذاكْ/ سنتين- ما أقسى/ الحياة/ وأبشع الليل الطويلْ/ والموت في الريف العراقي الحزين/ وكان جدي لا يزالْ/ كالكوكب الخاوي، على قيد الحياة». فما الذي زجّ بكَ في المجرى الآخر؟
ـــ عدم قدرتي على التفاعل مع البروليتاريا الرثة ربما تأخر بعض الشيء، ولكنني سرعان ما منعت نفسي عن جعل هؤلاء مصدراً للإلهام. الشيوعية العراقية حزبُ كتبٍ وأناشيد وتفاؤل بالبخت. كنا نحاول أن ننجز شيئاً غير ما يفعله ضاربو الرّمل، لكننا لم ننجح بسبب قياداتنا.
■ ولم تتخلص من تلك القسوة حتى وأنت في هذه الأمكنة السماوية بعد الموت؟!
ـــ بالعكس. فما بعد هذا الذي تسميه موتاً، سأستخدم نفوذي للحصول على منصب جيد هنا. وأنا في حوارات مستمرة مع كائنات الإبليسين للتقدم أكثر من خطوة نحو إنجاز ذلك النفوذ. الحراك الدائري الدائم هو عملي المباشر ما بين الأرض والسموات الآن. فالانتقام من الديكتاتوريين القدامى والسفهاء الأدعياء من مؤلفي الوسخ الأدبي لا بد من محاكمتهم. لقد عذبونا على الأرض، وعليهم التورط بشيء من العذاب هنا.
■ هل للموت سفنٌ أو باصاتٌ لنقل رُكّاب الأبدية من مكان إلى آخر… أم تلك العمليات تتم حسب الرغبة كما تعني؟
ـــ أنا حصلتُ على رخصة لهذا الغرض. لذلك فقد أصبحت متحكماً في حركتي وتنقلاتي من عالم إلى آخر بموجب تلك الرخصة الإلهية.
■ يبدو أن البياتي قد تخلى عن ثمار ابن عربي وشمس تبريز والحلاج وشهاب الدين السهرودي وبقية الرموز التي سبق أن أسس عليها قصائده. هل كانت تلك مجرد أقنعة للخداع فقط؟!
ـــ لا. لم تكن أقنعةً ولا أصباغ أظافر لطلاء كل ما كتبته من قصائد. أنا حاولت أن أعيش حالات وتجارب تخص ذلك الجانب، ولم أنجح. لقد أٌقصيتُ من البرزخ الصوفي بفعل تواطؤ ما.
■ عشت حالاتها كحولياً فقط؟
ـــ وماذا في ذلك. الكحول مفتاحٌ للكهنوت والموسيقى وكتائب الحواسّ.لا يمكن للمرء الاستهانة بتلك المادة التي تجعلك قريباً إلى نقطة الجوهر، وتجعل الجوهر يعكس حكمته المعرفية على نبضك، فتنهض فيك الحياةُ كما الثعبان بين يديّ ساحر هندي.
■ هل تشعر بضرورة أن يكون الشاعر ساحراً على سبيل المثال؟
ـــ السحرُ أصلُ الشعر، وهو الأب الروحي للشاعر.
■ ولكن نادراً ما يكون لغماً للانفجار الإبداعي في مخيلة أحد ما من الشعراء. ألا تعتبر ذلك أمراً عضوياً على سبيل المثال؟
ـــ هذا صحيح. فالمخيّلة هي العضو النوراني الأعظم من الجسم الآدمي. وأعتقد أنه الدينمو بالنسبة إلى المكوّن الشعري.
■ وما مدى قوة ذلك الدينمو في رأس البياتي؟ كم حصاناً قوته؟
ـــ على الرغم من دخولي السباقات الماراثونية منها أو السريعة في الشعر والكتابات الأدبية والسفر والترحال ومقاومة نظم الاضطهاد وحلقات الموت، إلا أن قوتي لم تثبط بشكل واضح. صحيح أنني تعثرت حباً، ولكن جذوة الشعر لم تخفت في بدني تماماً. كنت مثل طائر العنقاء ألتهب حتى الرماد، ثم أعاود النهوض بكامل قامتي.
■ ما الدافع وراء انتسابك لـ «الكلية العسكرية» في العراق بعد تخرجك من «ثانوية الإعدادية المركزية» في سنة 1945؟ هل كان بسبب رغبتك بالحصول على عضلات السلطة، تعويضاً عن انعدام عضلات الجسم؟
ـــ بالتأكيد نعم. فقد كنت شاباً ضعيفاً وانطوائياً وغير مكتمل العضلات. التعويض لم يتم حسب علمي. فقد تراجعت عن ارتكاب ذلك الخطأ، والتحقت بقسم اللغة العربية في «دار المعلمين العالية». ومن هناك بدء الشعر بالدبيب في مجرى الدم. والشعر يحتاج إلى قوة دفع في بداياته.
■ هل يعتبر أبا علي الشعرَ مرضاً؟
ـــ نعم. وهو مرض رومانسي جالب لمختلف النزاعات العائلية.
■ هل مررت بتجارب من ذلك النوع على سبيل المثال؟
ـ مررتُ بالكثير مما تسبب في خلخلة العلاقة الزوجية إلى حد ما، خاصة من وراء حركات الشاعرة لميعة عباس عمارة التي كانت تثير حفيظة زوجتي هند بشكل متعمد. ذاك الوضع المشحون بالضغط قادني إلى مكافحة أهداف لميعة التي طالما كان تحاول أن تجعلني واحداً من المعجبين بها.
ـ مررتُ بالكثير مما تسبب في خلخلة العلاقة الزوجية إلى حد ما، خاصة من وراء حركات الشاعرة لميعة عباس عمارة التي كانت تثير حفيظة زوجتي هند بشكل متعمد. ذاك الوضع المشحون بالضغط قادني إلى مكافحة أهداف لميعة التي طالما كان تحاول أن تجعلني واحداً من المعجبين بها.
■ هل سبق لك أن قرأت ما كتبه عنك عبد الإله الصائغ؟
ـــ أضحكتني هرطقته بالمفرد وبالجملة. لم أر في حياتي شخصاً بقلب إسفلتي مثله. هو صانع أكاذيب ومروج تفاهات ليس غير.
■ هل لأنه حرث بتاريخك السياسي وفضح بعض الأسرار؟
ـــ لست صاحب تاريخ سياسي ملغوم لأخشى من فضيحة ما. أنا تعيّنت بقرار جمهوري من الرئيس أحمد حسن البكر بين عامي 1975 – 1990 مستشاراً ثقافياً في مدريد. وعندما تقاعدت، عدت مع عائلتي إلى بغداد. وما أن حدثت فاجعة موت ابنتي ناديا في 1991 في أميركا حتى غادرت العراق متوجهاً لكاليفورنيا عبر الأردن. دفناها هناك. ثم أقمت في الولايات المتحدة قرابة 3 أشهر، وعدت بعدها للسكن في عمان الأردن. ومن ثم غادرتها إلى دمشق وأقمت فيها حتى وصولي إلى هنا عام 1999.
■ كما يبدو فأنتَ أمسكت بيدكَ الموتَ في غير مرة. ماذا كنت تحس في تلك الأوقات التي يصطدم الموتُ بجسد البياتي؟
ـــ كنت والموت نتصادم بطريقة شعرية. فهو يتصنع صورة الكائن المحشو بالبرق. وأنا أكتفي بصوتي الناطق بأناشيد الأساطير التي يخافها. وهكذا كنا، أحدنا يدور حول الآخر دون خوف أو ارتجاف. هو يمرر لي بعض الأشياء، مثلما كنت أمرر له بعض الأشعار تقديراً له على جهده بالعمل الشاق المنوط به.
■ ولكن ثمة من يقول عنك – عبد الإله الصائغ – بأنك مت موتاً عادياً رخيصاً:
«مات البياتي على فراش الشيخوخة والغربة لكنه لم يمت تراجيدياً كالسياب». ما رأيك؟
ـــ أنا متُ مسموماً ومسروقاً في منزلي الدمشقي. فقد كان سهلاً على شخص مرسل من قبل أجهزة الدكتاتور العراقي التسلل لبيتي والفتك بأشهر شاعر عراقي يعيش خارج بلاده. أليس هذا موتاً ما فوق تراجيدي؟
■ ولكن لم يتحدث أحدٌ عن ذلك الاغتيال. فكيف بلغتك العقربُ في بلاد الشام لتقتلك بسّمها؟ هل للبياتي أن يقول شيئاً عن موته في تلك اللحظة؟
ـــ لقد بلغتني أكثر من إشارة من برزان التكريتي يوم كان ممثل العراق في الأمم المتحدة في جنيف. بأن وجودي خارج العراق، إنما بات يوسع من دائرة الكتّاب والأدباء المعارضين لنظام صدام في الخارج. لذا طلب مني أن أشحن جسدي قبل حقائبي إلى بغداد. لكنني لم أعر لرغبته اهتماماً. ولذلك قرر أن يرسل العقرب لقتلي في دمشق. وكان صيدي سهل المنال في تلك الشقة المحروسة بالخمر والليل والوحدة وذاك الصديق السمّار الذي سرق كل مدخراتي من الأموال من دون أن يدقق أحدٌ بالجريمتين على حد سواء.
ليس لي إلا أن أقول الآن: كأسكِ يا دمشقُ الساهرة كالثمالة في دماء الأساطير.
■ بعد موتك… لم ينفذ أحدٌ وصيتك بدفن جسدك إلى جوار قبر معروف الكرخي، أحد كبار متصوفة بغداد، ولا قرب ضريح محي الدين ابن عربي في سفح جبل قاسيون. لماذا حاولت دائماً الانتماء لأضرحة المتصوفة؟
ـــ لأنني كنت أريد أن أشحذ من طاقاتهم الصوفية قوةً لشعري بعد الموت. أما عن ندمي بعدم دفني إلى جوارهم، فلا. لم أندم على ذلك. فأنا ما زلت مياوماً على زيارة الشيخ محي الدين.
■ وماذا تفعل معه في ذلك المقام؟
ـــ نحتسي بعض الكؤوس. ثم نقدم للنساء الحسان الأوراقَ ليقرأن على الموتى الناهضين من اللحود الكثير من أشعار العرب والفرنجة.
■ هل تحاول الاستدارة إلى كتابك الأول «ملائكة وشياطين» لاستعادة شيء من الماضي لمزجه بالحاضر؟!
ـــ قد يكون ذلك صحيحاً، فقد كنت أرمي الحصى لتحريك مياه الحياة المتنقلة ما بين قطبي الحياة والموت. الشر والخير. الطهارة والفساد. أنا فضاحٌ وساخر من أنظمة الظلام وباعة الإنسان في أسواق النخاسة.
■ ربما لهذا قال عنك أحد النقاد: «إن البياتي عندما يتعرض للشخصية التي ينال منها في سخريته يحاول أن يظهرها في أحطّ صورة». ما رأيك؟
ـــ هذا قصاب لحوم وليس بناقد كما أظن. البياتي الذي تحدث عنه هذا الشخص من دون أن يدرك حقيقته، هو شاعر تعرية. أي كل ما كنتُ أفعلهُ أنا، هو نزع الريش عن الشعراء الطواويس وخلع الثياب عن السلاطين.
■ هل تواصلتَ مع ناظم حكمت، أو أقمت صلةً مع لوركا وشعراء اليسار في هذه السموات؟
ـــ لا لم أفعل ذلك. فأهل اليسار الشعري على الأرض، هم جوقة رهبان يطوفون على منازل في الجنة لتعلم لغة الصيام.
■ وهل كان اليساريون من الأمييّن على الأرض؟
ـــ كل متطرفٍ لا ينال الرضا هنا. ضع هذا في حسبانك.
■ وهل تعتبر نفسك متطرفاً ؟
ـــ سألتُ هذا السؤال للشاعر عمر الخيام بالأمس، فردّ قائلاً: لن تكون مقاصد أعمالي الرضا أبداً. وأنا مثله بالقلب وبالقالب أيضاً.
■ لماذا نراك تلميذاً نجيباً للأسلاف، وتابعاً للصوفيين. تلوذ بثيابهم، وتتمنطق بأرواحهم؟! هل لأنك شديد الاستغراق بالخرافات والسحر والمنجمين، وكأنك تريد الالتحام بهم، بحثاً عن شفيع ما من كومة ذنوب، قد لا تغتفر إلا برفقتهم على سبيل المثال؟
ـــ وهل تصدقُ حقاً، بأن عبد الوهاب البياتي مؤمن بأحد من هؤلاء الجلاوزة المقنعين بالخرافات، أو بما يُسمى بشعراء الصوف والقطن والوبر؟!
__________
كلمات
العدد ٢٨٠٧