حفل نسائي


*حفيظة قارة بيبان


خاص ( ثقافات )
قررت أخيرا.. سأستجيب لبطاقة النسيان.فقط ساعة من زمن أؤدي واجب القرابة. أسير إلى قاعة الأفراح. أقترب من بهجة المحتفلين. أستسلم للموسيقى الطروب. أعانق الأضواء الملوّنة اللعوب، أحاول محو وشم ذاكرة الوجع الفادح الأخير وأنسى… عليّ أنسى صور الفيديو التي تطاردني كل ليل ونهار.
رغم العبارة المستفزة أسفل دعوة قريبتي: “حفل نسائي”، وجدتني أولي الظهر لظلمة الأرض وأدخل قاعة الأفراح.
* * *
بين الفساتين الأوروبية البراقة العارية، وبدلات الهنديات الملوّنة الخجول، وجلابيب الخليج الباذخة التطريز، تزهو بها المدعوات، خطوت إلى مجلس لم يحتلَّ بعد في آخر القاعة بعيدا عن مكبرات صوت تصدّع الآذان.
جال البصر في القاعة الأنيقة: النجفات المتلألئة الباذخة تتدلى بعناقيد المصابيح اللألاء، الستائر الشفافة البيضاء على امتداد الجدران، يتعانق كل زوجان منها في المنتصف على شكل وردة.. الشموع السابحة في ماء الأكواب الملونة على الموائد تتناجى لهباتها بحنين الليالي الحميمة. وهناك على الركح المجلل بالستائر البيضاء اللماعة بين باقتي الزهور تصدّرت العروس على عرشها، تتلألأ في البياض، يتدلى على كتفيها العاريين وشاح الدنتيل الشفّاف المشدود إلى تاج الزهور..
انتظرت عزف الموسيقى يحنو على تعب الدنيا، يعلو على الأصوات المتداخلة، ويرفعني إلى سماء أرحم. ولكن الفرقة النسائية كانت وقتها في استراحة.
من مجلسي البعيد، بدت رؤوسها ملفوفة -كما أجسادها- في البياض. مضى النظر بعيدا عن المشهد الكفني البارد لنساء الفرقة، يتلهى بما يبهجه، في انتظار عودة موسيقى الفرح.
أخيرا، بدأت الأصوات ترتفع على الركح شادية بمدح الرسول. ترقبت رنّة وتر يلطف حدّة الأصوات العالية، ولكن ما ارتفع صوت عود أو كمان. ما شدا ناي حان بمحبّة الرسول والسلف الذي عنه يغنّـين. كل الأوتار كانت غائبة، وقد انعدمت المعازف. فقط، صاحب الأصوات وقع طبول أخفتها عني رؤوس المدعوات المتوالية أمامي.
“لم يحلل الرسول غير الدفوف، العود محرم والكمان وكل المعازف!” ذكرت يوما أم العروس.. “فقط الدفوف!”
ولكن، لم يكن يصل مسمعي خفّةنقر الدفوف المحللة. لم يكن يأتيني غير قرع طبول يضرب الفضاء المحيط.
علت الزغاريد مع اختتام المديح، لتعود الأصوات بعدها منشدة مع الإيقاع. 
يا كعبة يا بيت ربي ما أحلاك إن شاء الله نسعد نزورك ونراك
هبّت امرأة من الصفوف الأولى. تلتها مجموعة من النساء. تمايلت الرؤوس الماضية إلى حلبة الرقص وارتفعت الأيادي ملوحة يمينا ويسارا.
.. يا كعبة يا بيت ربي ما أحلاك!…
اندفعن يرقصن، منتشيات بالإيقاع. الرؤوس تتمايل والأيدي المسورّة بالذهب تلوّح والصدور العارية تترجرج، تكاد تلقي أثداءها على ستائر البيت الحرام، والأرداف الثقيلة تهتزّ وتتلاعب.. والكعبة بينهنّ في حلبة الرقص، ترتفع في سواد التقديس، وقد اختفى الحمام من سمائها، صامتة بحزنها، يلفها الخجل.
تسارع النغم وازداد حماس المنشدات والراقصات حول بيت الله. استنجدت بالسماء قبل أن ألوذ بالفرار. أخيرا، شقّت الزغاريد الفضاء معلنة ختام الرقصة والإنشاد.
ارتفع بعدها صوت قائدة الفرقة:
“لنغنّ الآن للعروس وللفرح!ّ”
دقّ الطبل معلنا البداية. وتحوّل الغناء، مستعيرا ألحان أغنيات حبّ محرمة كلماتها، ليمدح جمال العروس وتقاها ودعوتها إلى المعروف في حياتها القادمة.
التفتت سيّدة الفرقة الملفوفة في البياض إلى العروس، مزهوة، موقعة النصيحة الغالية:
طيعي زوجك يا عروس!… طيعي زوجك يا جميلة!
همست سيّدة وقور قربي متذمرة: “بدأ الدرس!ّ”.
ضرب الطبل رأسي بقوة.. شقّه، ليرتفع صدى صوت بعيد سكن الذاكرة:
انجديني سيدتي!.. ماذا أفعل؟
يضربني ويطلب ما خبأت من بقايا مرتبي في البيوت لكتب أطفالي.. يضربني.. ليشتري سمومه! 
ماذا أفعل، أرجوك؟!.. يطلب أن أسرقك إن انتهى المصروف. فهل أطيعه؟
كان صوتها يتهدج بالبكاء وصوت المرأة على الركح يتغنى بنصيحة الأخوات:
طيعي زوجك يا جميلة!… طيعي زوجك يا عروس!
وقفت فجأة قائدة الفرقة ورفيقاتها. ظهرت طبولهن الضخمة، تضربها العصي، تقدمن خطوات. أحطن بالعروس بينما القائدة تدعو لإنزالها إلى الحلبة، لتتوسط الراقصات وتحتفل بجسدها وروحها الماضية إلى بيت الطاعة، راقصة في حلقة النساء.
اشتدّ قرع الطبول، وهبت ريح الصحاري الحارقة تطوح بالكائنات.. كانت العروس تخطو، تنزل إلى الميدان، وطبول الحرب تقرع عاليا، تشظى رأسي لتتطاير الصور الماضية من جديد.
شاهدت “الحبيب” ابن خالتي وحيد أبويه، يقترب مني على وقع الطبول، رويدا رويدا، في البدلة البرتقالية للسجين، مدفوعا بسجّانه الملثّم بالسواد. يدفع مقصوم الظهر والوجه الترابي المنهك يكاد يعفّـره التراب، تماما كما بدا في الفيديو الأخير على اليوتوب.
اشتد قرع الطبول وارتفعت الزغاريد، والعروس تتقدم رويدا رويدا إلى حلبة الرقص، والحبيب يتقدّم رويدا رويدا إلى الخلاء الأخير، والعينان تائهتان مخضلتان بدمعة الحياة الأخيرة.
اشتعلت الأضواء الحمراء.. دارت وتراقصت سريعة على الحلبة تنشر أقراص الضوء المثير على حلقة النساء التي انغلقت على العروس.
ارتفعت اليد الرشيقة المخضبة بالحناء. دقت قدما العروس الأرض. تلألأت راقصة تتابعها قائدة الفرقة مشجعة ضاربة أقوى طبلها الرهيب.
كانت العروس ترقص وطبول الحرب تقرع عاليا والرؤوس تتساقط على وقع الطبول.
أطلّ فجأة رأس الحبيب، مقطوعا داميا موضوعا على جسده -كما في الفيديو الذي جال العالم منذ أسابيع- كان مع رفاقه الماضين لجهاد الرئيس المستبدّ، قبل أن يختلف الإخوان ويحكم عليهم رفاق الأمس بالذبح والتحوّل خرفان عيد في بلاد الشام، لأنهم أدركوا اللعبة الكبرى وأرادوا النجاة وترك ساحات التقتيل.
كانت العروس ترقص بين النساء وطبول حفل الصحراء تقرع عاليا.. الجهاد فرض عين ضدّ كلّ كافر!.. العود حرام!.. وكل المعازف!.. طيعي زوجك يا عروس… ورؤوس المذبوحين العائدين للسلف دامية تحت الأقدام.. رأس جارنا كمال.. رأس ابن رفيقتي المراهق أحمد.. رأس ابن خالتي الحبيب.
أمسكت رأسي المتشظي.. فزّ الجسد هاربا من جحيم ظلمات الراقصين على رأس الذبيح.. أستنجد بظلمة الليل في الخارج.. أحاول النجاة برأسي المتشظي ولكن عصيّ الطبول كانت تضرب أكثر رأسي، تشظيه والقرع يخترق كل شقوق الروح..
في هروبي نحو باب الخروج استوقفتني قريبتي المحتفلة باسمة عند الباب تلحّ على بقائي وتمدّ لي كأس العصير المثلج علّه يطفيء حريق الصحراء الذي شبّ فيّ. كدت أمسك الكأس.. قبل أن أدفعه لينكسر وتتناثر شظاياه بين الأقدام… كان الكأس معبأ بدم “الحبيب”.
_________
*أديبة تونسية. 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *