أخت الغول.. أمّي


*أنوار الأنوار


خاص ( ثقافات )
وماذا كنتُ سأفعل وجودةُ خطّي لا ترضيكِ ولو كتبتُ درسي ألفَ ألف مرة؟؟ تقولين بامتعاض :”أعيدي من جديد وانتبهي لخطك” ! نعم، لم أكن أتقن الكتابة بخطّ جميل كما لم أكن أتقن الرسمَ مثلك أيضاً، وكنتُ أغار من لوحاتك المطرزة تسكن من الغرف الجدران، غير أني كنتُ أنجحُ حينها أن أرسمَكِ في خيالي كما لا تعرفين، ماردًا يقبع أمام كهفٍ حالكِ الظلمة بكرشٍ يتدلّق، ولسانٍ يفيضُ لعابًا، أرقُّ حالاته إن زمجر بصوته الأجشّ:”لولا سلامك سبق كلامك لفصلتُ لحمك عن عظامك”… حينها كنتُ ألقي إليكِ بسلامي كما تحبّين، فأعيدُ نسخَ درسي من جديدٍ، ودون أن يرضيَكِ خطّي من جديدٍ أيضاً!


سخر مني أبي وأنا أرسم النون فوق السطر. “النون تنحتي قليلًا فأنزليها”. لم أجبه. أردتها مقابلةً للألِف عاليةً محلّقة. عدتِ تكررين وعظك المملّ: “انتبهي لخطّك”. وعدتُ أمحو من جديد ما كتبت. مزّقتُ الورقة يوم صارت بقايا ممحاةٍ لا تظهر منها غير نونٍ طائرة وسط سوادٍ واسعٍ وحروف كثيرة تتبعثر. 
كنتُ سمعتُ وشوشتكِ لأبي فيما عبرتُ بصمتٍ أمام قهوتكما ساعة صفاءٍ نادر :”رجلاها معقوفتان داخلًا. ستتعثّر كثيرًا إن لم ننجح في لفّهما بالعكس”. قضيتُ الليل أعاني كوابيس أراك فيها تلزمينني بحذاء حديديّ يفرج قدميّ مرةً، وفي أخرى تصبّين حولي الإسمنت كي لا تلتويَ خطواتي أكثر . لعلّك أدركتِ أنّ الطفلة التي تتكوّر في نومها وتدسّ كفّين تتعانقان بين ركبتين مثنيّتين، وتُغرق رأسها في صدرٍ نحيل تبلله الدموع، لا تصدّقكِ أبدًا حين لا تسعفها كلّ تعاويذكِ لتبديد صور الرعب الراسخة، وأنّ “قل أعوذ بربّ الناس” لم تكن كافيةً يومًا لإقناعي بأن الوسواسَ ينبعث حقًّا من صدري. ها أنني يا أمّي ما زلتُ فيهم أراه. 
لم أفهمك..
رأيتُ ما سحّ من عينيك جفافًا يوم شهقتُ باكيةً عصفورة نهشتها القطط :” عشرون قطًّا حول عصفورة واحدة”!؟ وحررتُ دموعي.
-“يا لخيانتك أيتها الشجرة”، قلتِ ورفعتِ عينيّ إليكِ تكررين لازمتك الغريبة “انتبهي لخطك يا صغيرتي”، ورحِتِ تحكين لي أسطورةً تصير فيها عصفورةٌ ملاكًا فتصير القطط شياطين تملأ السماء، وإذ ختمتِها نزّ من قلبك خوفٌ حدّ الرعب :” تصير الأشجار سماواتٍ يا بنيتي، تفتح أبوابَها للشياطين وتغيب من الدنيا الملائكة. يهرب الملاك إلى سماءٍ أخرى فتتصدّع”.
راوغني الفهم إذ تمتمتِ في سرّك إبهامًا وأنا أردّد لك ما حفّظتِني من قصائد لأتبجّح بكوني تلميذةً نجيبة. غنيتِ لي أغاني حزينة وأنتِ تلقين بعينيك إلى ثوب تخيطينه فوق ماكينتك :”الأثواب خائنة يا صغيرتي، حين تفيض عن الحدود تفتح الأبواب للريح التي تجيد تكسيرها”. ثم همستِ وعيناك مطرقتان :”يا كم يخيفني خطّك”!
لم أفهم ما شأن الخط وأنا أسكب على مسامعك الأشعار التي تحبّين. أومأتِ لي لأختار من بين الكتب المرتّبة بعناية فوق مكتبتك –المكتبة النسائية الوحيدة في تلك القرية- كتابًا لا أذكر عنوانه يحكي عن امرأةٍ حلمت أن تكون إلهة، فاجتمع الآلهة المذعورون ليتفقوا على اغتصابها. “وحده اغتصاب مذلّ يقهر حلمها” -قال كبيرهم –فوافقوه، فيما هتف كلّ الشعب مباركين . فكيف تجرؤ امرأة من أهل الأرض على حلم متطاول؟
أسكتَتني البغتة فكررتِ قولك :”انتبهي لخطّك” وقمتِ ترتّبين لصاحبة الثوب مقاساتها.
وكبرت، وظننتني فهمتك. يوم هاجمني شيخٌ غبيّ في خطبته لأنّني كتبتُ ما لا يرضي طموحه في تسيير قطعانه فانتهز منبره تحريضًا أعمى. جئتُكِ يائسةً ودمي شبه مهدورٍ. دخلت عليك تعتزلين أبي والجميع عجوزًا فوق الستين في غرفتك وتعانقين قلمًا ودفترًا عملاقًا تخطّين فيه سطورًا سارعتِ لإخفائها إذ رأيتِني. كانت عيناك تفيضان دموعًا قبل أن تلملمي الأوراق. تسللتُ بعدها وتلصصتُ على ما تكتبين وبكيت أكثر حين قرأتُ حروفك عن شاعرة قيّدتها الأقفاص: ” الشعر جناحٌ ما أكثر مَن يشذّبونه حدّ نتف الريش”.
كان دفترك غارقًا بالصرخات سعيًا أن يكسر أسياخ القضبان التي حاصرَته فيما تحكين حكايتكِ\ حكايتي امراةً من حلم شدّوا حولها وثاقَ قيود دينٍ وعرفٍ والتزاماتٍ علّمتها الخرس. 
ثمّ أنصتُّ لما فاض من صمتك حين تنبّهتُ أنّي أزرع عمري في أرض صلدة، أسقيها أحلامي وألحّ ان تزهر يومًا. ويوم أصرّت أن تصرخ في وجهي إن اليباب عهدها وموعدها ضاق بك الحرف. غير أني سمعتُ في سرّكِ ذاتَ العبارة التي أمطرتني بها منذ وعيت :يا كم قلت انتبهي لخطك”.
فهمتك حقًّا يوم تحجّرت في عينيك دمعة، وتحشرج صوتك مختنقًا فيما بدوتِ كمن تقطف لأول مرةٍ زهرات روحها المخبّأة في بئر الأسرار ، إذ احتفى بك جمهورٌ ممتنّ لأمّ وهبت العالم أبناءً أرضعتهم الحبّ والشعر والفنّ، ثمّ وبعد أن حلّقت عصافيرها حرّةً، عادت إلى حلمها عجوزًا تدوّن أغانيها والأهازيج في كتابٍ وتنشره، مؤمنةً أن القادم لا بدّ أن يغنّي، وأنّ الأغنيات تاريخٌ ينبغي ألا يغيب. 
وغفرتُ قسوتكِ.. يوم قرأتُ مخطوط كتابك الثاني وأنت تقتربين من السبعين اذ سكبتِ على دفاترك الضخمة أشعارَك المحبوسة وأحلامَك الموءودة منذ سجنتِ رقّتك في ثوب ألبستِه حراشف واخزةً كيلا يعلككِ واقعٌ لا يعترف بامرأةٍ تحلم . وارتديتِ القسوة لئلا يدّعي عليك الذئاب أنك نعجةٌ في بلدٍ لا يعترف إلا بالعض. 
قالت أغانيكِ ما لم تُسرّيه لنا :” لم أكن يومًا منهم ولكني اعتنقت سبلهم كيلا تتوِّهني الدروب”!
يومها أدركتُ أنني أشبهك كثيرًا، وأنّ لي خطًّا لفرط ما أوجعك أرعبك، ولكني اخترتُه دينًا نحو حلمي وسلمتُ للحرف والدهشة عمري.. وأقسمت أن أرسم النون محلّقةً وأشهد أني مهما انعقفت قدماي وبدَت ناشزةً خُطاي فيهم، سأظلّ أحلم يا حبيبتي العنقاء أن أفيَ يومًا ما خنتِ من خطّك..
الجليل/ 13-11-2012

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *