*تحقيق- سعد الثقفي
قد لا تعتبر الكتابة على الجدران وما في حكمها شيئاً من العبث المحض كما يظن البعض، حيث إنّ المتتبع لها والناظر إليها بتمعن يدرك المعاني التي تنطوي عليها هذه الرسومات، وإن كانت العبثية هي جزء من العملية في بعض الكتابات والصور، ولكنها تنبئ عن شيء ما داخل نفسية الكاتب، يريد أن يوصله لنا، وقد لا يريد أن يوصله لأحد، فقط يعبّر به كما يتخيله، وهكذا تتوالد رسومات وكتابات شتى تجد لها خصائص معينة تندرج تحت السرية والكتمان، فلا أحد يعرف بالضبط من رسم هذه ومن كتب تلك، وكلُّ ما هناك علامات ورموز أشبه بالأحاجي، تميز الفاعل عن غيره.
وهناك أيضا الحرية المطلقة في الرسم والكتابة، فالكاتب على جدار الشارع لا يهتم مطلقا بالقارئ والمشاهد، لذا يكتب على سجيته، وقد يرسم رسوماتٍ غير لائقة، ولكنها ذات دلالات وعلامات عنده يهتم بها ولها، وهناك الأثر الذي يمكن أن تتركه هذه الكتابات والرسومات لدى المطلعين والمتابعين والعابرين أيضا، فهذه الكتابات التي تزين مداخل الحارات والشوارع والأرصفة والميادين وحتى داخل دورات المياه وغرف التوقيف بالسجون لها دلالاتها، التي يمكن أن يفسرها كل واحد تبعا لهواه وفكره أيضا، ومستوى عقله وفكره أيضا، فهناك من يقف عند حدود المتعة، وهناك من يستطيع أن يستدل من خلالها على فك طلاسم الحارة، بما تحويه من مجرمين ومروجي مخدرات وبائعات هوى، وقد تكون شفرات لخلايا وعصابات، وما إلى ذلك من هذه الفنون العجيبة والتي تختلط فيها كتابات المراهقين ورسوماتهم مع كتابات المجانين، ويتخلل ذلك إشارات وكتابات المنتفعين منها، وقد تجد حروبا على زاوية أو مكان ما، فهذا يكتب شيئا وذاك يمسح، وهكذا تبقى اللوحة مليئة بالألوان والكتابات، وتصنع منها عوامل التعرية والزمن لوحة رائعة لا تقل جمالا عن لوحات أعظم الرسامين.
وقد حاول الناقد سامي جريدي فك شيفرة هذه الرسوم والكتابة عنها وتوثيقها، حيث تنبّه بذكائه النقدي إلى أهمية ما تحويه هذه الكتابات، معتبراً أنّها شاهد على العصر، ومفسر لما حدث في زمن ما للمكان، وهكذا خرج كتابه “فن الكتابة على الجدران”، الصادر عن وكالة وزارة الثقافة، وإنْ كانت هذه الكتابات يعوزها أن تُدرس من عدّة جوانب وليس من جانب واحد، وهذا ليس نقصا في العمل، فقد كتب عن الجوانب التي يجيدها، لكنّ الجانب النفسي، ومستوى اللغة العربية نحويا، وطريقة بناء العبارة، وما تأثر بها هؤلاء الرسامون وجعلهم يختارون أسلوباً دون غيره، كلها جوانب تحتاج من يعرف كنهها، ويقارن بين الكتابة على الجدران في المدن وأسباب الاختلاف والاتفاق.
لنعرف حقائق كثيرة عن هذا الفن يجب أن نعي أنّه قديم جداً، حيث إنّ الكهوف قد احتوت منذ آلاف السنين رسومات شبيهة بهذه التي على الجدران، لكنّ الاختلاف بينهما يكمن في الوسائل والرسائل، ففي هذا العصر يرسمون بواسطة ألوان رخيصة الثمن لا تكلفهم شيئاً غالباً، وبعض الأعمال لا تلبث إلا وتبلى بسبب عوامل التعرية والطمس الذي يلحق بها، بينما في الكتابات على الجدران والنقوش القديمة، تبقى لكونها حفرت، ولا ندري أهي ساخرة مثلاً أم تشيد بعصر من العصور، أو تحتج على شيء ما، وتصور هذه المرارة كما يحدث الآن.
________
*جريدة الرياض