*ممدوح فرّاج النّابي
“هل مِن الصّعب أن تجمع المرأة بين الكتابة والأمومة؟ لماذا يبدو ذلك صعبًا؟ هل السبب هو طبيعة الكتابة التي تتطلب العُزلة، فيما لا تستطيع الأم الانعزال؟” هكذا تتساءل الروائيّة السّعودية بدرية البشير في المقدمة التي صدّر بها المترجم أحمد العليّ ترجمته لمذكرات الأديبة التركيّة أَلِيف شَفَق “حليب أسود” الصّادرة عن دار مسكيلياني 2015، بل تتخذ البشير من هذه الأسئلة مُدخلاً لتساؤلات أوسع عن طبيعة علاقة المرأة المُبدعة بالكتابة من جانب وعلاقتها بذاتها وتجلياتها على الكاتبة كزوجة وكأمّ، فتضعنا أمام إشكالية جديرة بالمناقشة مِن قبيل: هل تتصالح المرأة الكاتبة مع أمومتها سريعًا مثل باقي النساء؟ أو هل نستسلم للنزعات الثقافية التي زُرِعَت بداخلنا والقائلة إن دور المرأة الأبدي والوحيد هو الإنجاب أي الأمومة، أم ننتصرُ لمواهبنا المتفرّدة؟ هل نُغيّر أنفسنا كي يتغير قَدَرُ النساء ونُغيّر العالم معنا؟”.
بقدر ما أثارت تساؤلات البشير من إشكاليّات مهمّة إلا أنّها تركتِ الجواب لأليف شفق التي أجابت في مذكّراتها عبر نسيج محكم البناء عن كافة التساؤلات بل وأكثر منها لكل ما يعتري جميع النساء الكاتبات وغير الكاتبات من هواجس ما بعد الولادة، والعادات التي تُغذّي بها الجدّات حفيداتها عن حفظ سرير المولود.
صراع الأمومة والإبداع
نصّ أليف شفق الجديد “حليب أسود” يأتي مغايرًا لكتابات أليف السّابقة منذ روايتها الأولى “الصّوفي”، فأليف عادة ًتنحاز لمعالجة قضايا مهمة، كثير منها متعلِّق بقضايا وطنها تركيا وما يُعانيه مِن أزمات سواء على مستوى تركيبته الإثنيّة كما حدث في روايتيها “قصر القمل”، ثمّ في رواية “لقيطة إسطنبول” والأخيرة تعرضت بسببها للمحاكمة لأنّها تعرضت للهُوية التركية، وأيضًا روايتها “‘شرف” التي تعرضت فيها لقضايا الشرف في جنوب تركيا، وكيف أن الناموس (الأنساق المهيمنة) يُطارد صاحبه حتى لو غادر المكان، فالامتثال للناموس هو امتثال للهُوية، والتغاضي عنه بمثابة تفريط في الهُوية. أو حتى قضايا العشق كما في معالجتها لحكاية جلال الدين الرومي في روايتها ذائعة الصيت “عشق” أو “قواعد العشق الأربعون” كما في ترجمتها العربية، وصولاً بحفرياتها في التاريخ كما حدث في روايتها الأخيرة “المُعلِّم وأنا” والمترجمة إلى العربيّة “بالفتى المتيم والمعلِّم”.
على غير أعمالها السّابقة تتطرق شفق في هذا العمل لقضية شخصية، حيث معاناتها بعد الولادة وصولاً إلى حالة الاكتئاب التي لازمتها، وكعادة أليف تجاوزت ذاتها إلى طرح قضية عامة حول مُكابدة أو صراع الأمومة والإبداع، في الحقيقة هذا الصراع ليس مقتصرًا على ما عانته شفق، أو هو يخصُّ ثقافة دون أخرى بل هو تراث تشترك فيه كافة الكاتبات سواء أعاشت المرأة في الشرق أم في الغرب؟
وهو الأمر الذي استلفت شفق نفسها فاستعرضت داخل نصها لكافة الدراسات النسوية لتاريخ الكاتبات في أميركا وفرنسا والصين واليابان، كما أنها قارنت بين تجارب هذه الكاتبات على اختلاف جنسياتها: سيلفيا بلاث، أداليت أغاأوغلو، فيرجينيا وولف، مورييل سبارك، أناييس نين وغيرهن، قبل مرحلة الحمل وبعدها، وأيضًا تطرقت إلى حياة بعض زوجات الكتاب مثل صوفيا زوجة ليو تولوستوي وفرقت بين وجهة نظرهن بين فكرة “الأمومة” و”الرؤية النسوية” feminist لخلق شيء من التوازن العقلاني، أو فيروز أخت الشاعر الفضولي البغدادي، لتخلص في نهاية الأمر إلى أن الأنثى (تحديدًا) يتساوى لديها العقل والرحم في الحمل والإنجاب، وهي المقولة التي أدركتها مؤخرًا شفق بعد أن تجاوزت الثلاثين وإن كان أكّد عليها من قبل الروائي التركي الشهير”بيامي صفا” عندما قال إن “الطريقة الصّحيحة للخلق بالنسبة إلى المرأة، أيّ امرأة هي رَحمها، لا عقلها”.
الجرم المشهود
تُقدّم أَلِيف شفق في “حليب أسود” تجربة جديدة، ومغايرة عن أعمالها السّابقة، فتمزج فيها بين الواقع والخيال، والتاريخي والثقافي، والشخصي والعام، أيضًا بين المحليّ والعالميّ، فتستقي مادتها الأساسيّة من تجربة شخصيّة لها بعد الولادة، فقد لازمتها أزمة اكتئاب لمدة سبعة أشهر، ثمّ استطاعت أن تتجاوز هذه الأزمة بالكتابة، لتقدِّم لنا تجربة جديدة، لا تهمّ أليف شفق ـــ وحدها ــ في كونها استطاعت من خلالها أن تستردَّ ذاتها التي فقدتها أثناء فترة الاكتئاب، وإنما هي تجربة مهمّة لكل امرأة، بما قدمته من أسئلة جوهرية عن علاقة الكاتبات بمجتمعاتهن وبالدوائر الثقافية من حولهن.
جاء عنوان الكتاب ليعكس أولاً علاقة أليف شفق بالألوان فهي ضدّ اللون الأبيض، وهذا الرفض دفعها عندما تزوجت في برلين من زوجها أيوب، وهو الزواج الذي كانت الأم لا تتوقع أن يحدث مطلقًا لمعرفتها بطبيعة ابنتها، رفضت أن ترتدي الفستان الأبيض كما جرت العادة في مثل هذه الحالات، حتى أنّها من شدة كراهيتها لهذا اللون نَسج الكثير من أصدقائها توهمات بأنّها سقطت في “قدر كبير” من الأرز بالحليب في طفولتها، وهذه العلاقة الضديّة جعلتها تعاود كُرهها للأبيض، وتصف نفسها بأنّها “مُتحيّزةٌ دومًا ضدّ الأطباء البشريين وأطباء الأسنان وفنيّو المختبرات، الناسُ الذين يرتدون الأبيض دومًا». وفي إطار العلاقة الضدية أسمت كتابها بـ”حليب الأسود”.
وقد أرجعت هذا إلى سببين: الأول، لأنّها من خلال تعاملها مع الاكتئاب بعد الولادة تبيّن لها أنّ حليب الأم ليس دائما “أبيض نقيًّا”، والثاني، لأنّها كما تقول “حصلت من هذه التجربة على ‘إلهام’ فريد من نوعه وهو أنّه من الممكن تطوير ‘الحبر’ من خلال الحليب الأسود”. العجيب أنّها تطرقت لمرحلة ما قبل الولادة أي مرحلة الزواج وكيف أن الجميع استقبل هذه الخطوة بحيرة، لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه النقطة خارج نطاق تفكيرها ومشاريعها المستقبليّة بمن في ذلك أمها التي عبّرت عن هذا الخبر بقولها “مذهولة ومحظوظة مثل شاطفة الأواني تلك”.
أمّا القرّاء فكانت صدمتهم كبيرة بهذا القرار كما جاء في رسائلهم البريديّة، وبعضهم وصف هذا القرار بأنّه “لحظة الجُرم المشهود”، العجيب أن شفق قابلت حالات الحيرة والدهشة والصدمة لقرار زواجها بكلمة واحدة وجهّتها للجميع “إنّه الحبّ”.
ومع هذا الإعلان إلا أنه تعترف بينها وبين نفسها أن “الوحدة جُزءٌ مُلازمٌ لكينونة الإنسان” وقد وصل بها هذا التلازم إلى درجة أن تقول “عشقتُ الوحدة، تودّدتُ إليها” وفي لحظات أخرى تُبدي تشكّكها فيما أقدمت عليه بقولها “سأفتقدُ عُزلتي” وهو ما يعني أن ثمّة هواجس تنتابها، لتأتي مرحلة الولادة وفي فترة منها كانت ستقضي على كل طموحاتها في الكتابة إلى أن يتبدّل هذا كله، لتقرّ بأنّ الأمومة “أعظم هدايا الحياة، باعتبارها قالبا يعيد تشكيل طينة القلب، ويجعل الإنسان متناغماً مع إيقاع الكون”.
نساء ما قبل الحداثة
تُبرز شفق في هذه التجربة أو المذكّرات علاقة المرأة بالكتابة وبالعمل، والدور الواقع عليها، وكيفية مراوغات المرأة للبحث عن لحظة انفلات أو انعتاق تستطيع من خلالها الإخلاص لتجربة الكتابة والإبداع وعن الإكراهات الواقعة عليها في عملية التكييف بين التزامات الحب والزواج وتدبير أمور المنزل والحمل والعناية بالأطفال، وهو العبء الذي يُضاف إلى عاتق المرأة المبدعة.
من خلال كتابة هذه المذكرات نجحت أليف في تخطي فترة الاكتئاب تلك، بل استفادت من تلك التجربة العصيبة، والتي أنجبت فيها ابنتها شهرزاد، فأدركت بأنها ولدت من جديد مع ولادة ابنتها، حيث أنها اعتقدت عندما كانت في مرحلة الاكتئاب، بأنها لن تعود للكتابة من جديد، لأن إحساس المرأة بالأُمومة قد يشلّ تمامًا رغبتها للكتابة، فقد داهمها خوف شديد “وقد صرتُ أُمّاً وربّة منزلٍ، فلن يعود بإمكاني كتابة الروايات. مثل سجّادةٍ قديمةٍ، سُحِبَت شخصيتي القديمة من تحت أقدامي”.
ومع مقاومتها لشيطان الكتابة الهارب منها على الرغم من محاولاتها الفاشلة تقرر”بأن أجعلَ من حليبي المسوَدّ، حِبراً. فللكتابة دوماً تأثيرٌ ساحرٌ يشفي روحي، أقدرُ أن أشُقّ طريقي خارجةً من هذا الاكتئاب”، فقامت بسؤال النساء عن تجاربهن في اكتئاب ما بعد الولادة، فاكتشفت أن هؤلاء النساء يحتمين ويتحصن بتقاليد ورثنها عن جدات لهن، وعبر انثيال للحكايات تستدعي ميراثًا من العادات التي تقوم بها النسوة بعد الولادة حماية من هجمات الجن فتقوم العوائل التقليدية “بتزيين فِراش حَديثَةِ الوِلادة بشرائط قُرمزيّة، وينثُرنَ بِذار الخشخاش المُقدّسة في أرجاء الغُرفة لطردِ أيّ روحٍ شريرةٍ تحومُ في الهواء” أو بفصوص الثوم، أو خُرَز العين الحافظة من الحسد التي تُعلّقُ على ستائر سرير المرأة الوالد.
كما تقارن بين وضعية المرأة في المجتمعات التقليدية التي تنذر حياتها لإيمانها وتُقسمُ ألّا تتزوّج، كي تكونَ مَحَطّ تبجيلٍ من قِبَل الجميع. لكنها، في ثقافة اليوم، تُعتَبَرُ “عانس”، وهو وضعٌ مذمومٌ ومُخزٍ ومُثيرٌ للشّفقة؟
عقب صدور الكتاب قدمت الكاتبة حوارًا مع فيليب موجان أحد الكتاب المرموقين في المملكة المتحدة، يعمل مساعدًا لرئيس تحرير مجلة “نيو ستيتسمان” الأسبوعيّة اللندنيّة العريقة، قالت عن تجربتها في هذا الكتاب “أعتقد أنّ في كل واحد منّا سواء كنت، امرأة أو رجل أصواتًا داخليّة متعدِّدة، فعندما نخرج إلى المجال العام نقدِّم أحد هذه الأصوات إلى الواجهة، أنا اخترتُ الكتابة أحد هذه الأصوات منحازة إلى ‘عقلي’ ضدّ ‘الجسد’، والثقافة ضدّ الأنوثة والأمومة”.
الكتاب كما تقول البشير في المقدمة هو “تجربة وَعي لِمَا يُمكن أن يحدُثَ حين تتصارع الأُنثى التي تَلِدُ الكلمات والأُنثى التي تَلِدُ الأطفال، وكيف يُشَقّقُ هذا الصراعُ المبدعةَ إلى كياناتٍ مُتعددةٍ تحرمُها من السّلام والصّفاء وحالة الرِّضا، ويجعلها كما كتبَت شفق “في هَوَسٍ دائمٍ بشأن الدرب الذي أهمَلَت اختياره”.
أما من قرأ الكتاب فقد رأى الكثيرون منهم “أنّه عبارة عن هدية بل قصيدة جميلة لجميع النساء في العالم”. السؤال الآن للنِّساء بعد هذا الكتاب: أيهما تخترن العقل أم الرّحم؟
________
*العرب