*فاروق يوسف
ليست مقهى فلور بالنسبة إلى الكثير من العابرين بها أو الجالسين فيها سوى واحدة من المقاهي الكثيرة التي يعج بها سان جيرمان بباريس، غير أنها بالنسبة إلي لم تكن كذلك. هي معبد أسطوري يقيم فيه واحد من أعظم كهنة الكتابة في التاريخ، لذلك ترددت سنوات طويلة قبل أن أجلس فيها مرتجفا.
ربما كان ذلك الكاهن لا يزال جالسا في إحدى زوايا المقهى ولم أره. ربما وقف قريبا مني وهو يكلم النادل بصوت خفيض. شبحه على الأقل لم يغادر المكان. فالرجل الذي ما أزال أبحث عنه كان جسده قد ذهب إلى مقبرة الخالدين (بانثيون) عام 1980. يوم مات كنت في بغداد منهمكا في قراءة كتابه “الكلمات” وهو أحد أهم الكتب التي غيرت حياتي. حين أقول “حياتي” فأنا أقصد علاقتي بالكتابة، فما من شيء مثل الكتابة وهب حياتي المعنى الذي جعلها مختلفة عن الموت.
كان جان بول سارتر المولود عام 1905 قد كتب ذلك الكتاب وهو في الثامنة والخمسين من عمره. كان يومها فيلسوفا مكرسا، بل كان الأشهر من بين الفلاسفة الأحياء في عصرنا. حسب أقواله فإنه كتب الكثير من كتبه ومقالاته في مقهى فلور، ومن المؤكد أن “الكلمات” وهو كتاب سيرته الصغير هو أحد تلك الكتب. وهو كتاب مكتوب بتدفق ومتعة وانسيابية حتى ليشعر المرء أنه كُتب في جلسة واحدة.
وقد لا يبدو ذلك بعيدا عن الواقع إذا ما عرفنا أن سارتر هو محترف كتابة من طراز فريد. صانع كتب، كانت المكتبة بالنسبة إليه العالم معكوسا في مرآة، لذلك فإن سيرته الشخصية تتألف من فصلين لا ثالث لهما. القراءة والكتابة. لذلك فإنه لا يتذكر شيئا من طفولته التي قضاها قريبا من جده لأمه سوى الكتب.
كان سارتر يقول “كانت الكتب طيوري وأعشاشي وحيواناتي الأليفة وحظيرتي وريفي”، وهو ما جعله ينظر إلى مؤلفي تلك الكتب باعتبارهم أصدقاءه الذين سيقضي في صداقتهم بقية عمره، بل إنه كتب عن اثنين منهم هما بودلير وفلوبير أجمل كتابين في تاريخ السيرة الأدبية المضمخة بالتأملات الشعرية.
كانت رفقة الكتب تسليته الوحيدة التي ارتقت بمستوى حياته قارئا وكاتبا، سيترك أثره الفلسفي واضحا عبر العصور. “بدأت حياتي كما سأنهيها بين الكتب”، وهو ما كان مخلصا له إخلاصه للحرية ولكرامة الإنسان.
لم أفهمه في “الوجود والعدم” وهو إنجيل الفلسفة الوجودية غير أن فصلا من ذلك الكتاب الضخم هو “سوء الطوية” قد ألهمني الكثير من الأفكار عن التيه الذي سأمشي في دروبه في ما تبقى من سنوات حياتي. سارتر عرف نفسه مثلما عرف الآخرين وهو الذي وصفهم بالجحيم، وهو ما جعله يدرك أن ما من شيء مثل الكلمات في إمكانه أن يخترع سماء، لا تكتفي بالنظر إلى الأرض من فوق، بل تعيد خلقها. وهو ما فعله بي كتابه “الكلمات” في وقت مبكر من حياتي.
________
*العرب