*بهاء بن نوار
( ثقافات )
“أنا دائما أفضّل الكذابين. الكذابون أرستقراطيّون. الكذابون هم على طريقتهم الخاصّة، المتمرّدون، والتمرّد دائما أمرٌ أرستقراطيّ… الصدق شحّاذٌ، ناسكٌ، كافرٌ، طاغيةٌ، ابن كلب… لا نريده!”/ وديع عساف – السفينة – لجبرا إبراهيم جبرا
جاء في الأسطورة القديمة أنّ الحقيقة تجلّت للبشر بكامل عريها، ووقاحة انفضاحها، ففرّوا منها، ولم يجرؤ أحدٌ على التحديق فيها، أو حتّى محاولة استراق النظر إليها، فلم يكن منها سوى الانسحاب، وستر جمال أو قبح عريها بشيء من الأصباغ والثياب، وعندها فقط اقتربوا منها، وقبِلوها، بل أحبّوها، وعشقوها، وأراقوا في حضرتها أعذبَ الأغاني، وأرقَّ الأناشيد!
وما تلك الثيابُ والأصباغ سوى الكلمات، واللغة التي نتفنّن في صقلها، وتهذيبها، ومحاولة قهرها، وترويضها، فلا نجني سوى مزيدٍ من الخيبات، وحفنةٍ مقصودةٍ أو غير مقصودة من الأكاذيب الفاتنة، أو الحقائق الشائهة…
أيّهما أجمل؟ وأليق بكرامتنا الإنسانيّة: أكاذيب شاهقةٌ، وأرستقراطيّة، نتوخّاها، ونتقصّدها؟ أم حقائق بائسةٌ، وأسمالٌ كئيبةٌ، بالكاد تغطّي مسافات شهقتنا وحنيننا؟
لماذا نكذب؟ لنرتّق تخرّقات راهننا؟ لنقفز فوق نسبيّتنا؟ نعانق مطلقنا؟ نرتفع إلى ما فوق قدَرنا ونعبر إلى ما وراءه؟ لنغدو أجمل؟ أبهى؟ أروع؟ لنمنح أنفسنا جرعا مخدّرةً إضافيّة؟ وضروريّة؟ لكي نظلّ أطفالا؟ أم أنّنا نكذب فقط لكي نحيا؟ لأنّنا ببساطةٍ نحتاج الأكاذيبَ كما نحتاج الماءَ والغذاءَ والهواءَ…
“ك. ذ. ب”.. حروفٌ، وأصواتٌ، ونغماتٌ جميلةٌ، لطالما حاولوا تشويهها، وتزييف جمالها.. وطالما أطعناهم، وصدّقناهم، ويا لسذاجتنا!
أنْ نكذب يعني أن نحلّق، وأنْ نبدع، ونبحر بعيدا في أعماق المدهش والممكن. أنْ نكذب أيْ أنْ نستمرّ في محاولات التجاوز والانفلات، وأن نستخفّ بعبثيّة الكائن، ونخرج ألسنتنا ساخرين منه ومن مصادراته.
أن نكذب يعني أن نعشق، وأن نحبّ، وأن نغدو آلهة، ونخلق كونا بهيّا، ووجودا مكتملا، وموازيا لكوننا البائس ووجودنا البذيء… قلْ لي كيف تكذب. أخبرك مَنْ أنت، وأيّ شيطانٍ فاتنٍ، أو عبدٍ بائسٍ كامنٍ في أعماقك.
الكذب يهبنا جرعةً إضافيّةً من النسيان، ومن الأمل، والسعادة، والنشوة… صحيحٌ أنّها هشّةٌ، ولكنْ ليس بمستوى هشاشة ما نسمّيه حقيقةً، ونفني أعمارَنا في التغزّل بها وملاحقتها!
أنْ نكذب يعني أنْ نأتلق، وأنْ نشعّ، ونشرع البابَ على مصراعيْه لجميع الأسئلة والإمكانات. أليست الأسئلة مشاريع أكاذيب مرجأة، بارعة؛ أي مشاريع احتمالات لا تنتهي، وحيوات لا تفنى؟ بلى، إنّها فسحة الممكن، واللامستهلَك دائما، وما الأجوبة سوى أكاذيب فاشلة؛ إنّها جثة الكائن، وبقايا الزمن المتفسّخ، والمستنفَد.
ألا فلنكذبْ، ولتكنْ أكاذيبُنا أخاذةً، وعبقريّةً، عبقريّة هذا الضباب الكثيف الذي يغمرنا، لنكذبْ، فتاريخنا الوجوديّ كلّه هو تاريخ الأكاذيب البارعة والجميلة، وما الأساطير الفذّة، والآداب، والفنون، سوى ضروب من الأكاذيب العظيمة التي لا يتقنها سوى العباقرة، والمجانين، والعشّاق، والقدّيسين.
لنكذبْ، شرط أنْ تكون أكاذيبنا عذبةً، وبريئةً، هشّةً، وجميلةً؛ لثغةً طفوليّةً، فلتةً إبداعيّةً، نوبةً جنونيّةً… أف! لنكذبْ، لأنّنا إنْ لم نفعل، هلكنا حقا، وابتلعتنا أوحالُ القدَر والنسبيّة..
لنكذبْ، وإلا نضب خيالنا، وجفّت قلوبنا، وتيبّست شراييننا، وتسلّلت الشيخوخة إلينا… لنكذبْ، وإلا متنا!
ألا إنّ الإنسان أكذوبةٌ؛ أكذوبةٌ عذبةٌ، أو لا يكون!
ــــــــــــ
* كاتبة من الجزائر