*د. حسن مدن
كما في ما مضى من أيام صحوتُ عند السادسة. من وراء شباك الغرفة وجدت السماء ملبدة ببقايا غيوم، أما الشارع فبدا مغسولاً بالمطر، جهزت نفسي للخروج أسرع قليلاً مما فعلت بالأمس، وحين انطلقت بالسيارة كانت حبيبات مطر ناعمة تداعب زجاجها أمامي. بمحاذاة «دوحة عراد» رفعت وجهي نحو السماء فأبصرت قوس قزح. منذ متى لم ألحظ هذا القوس في السماء؟، ليست الخطيئة خطيئته هو، فلعله يظهر كلما تيسرت له سبل الظهور، ولكن قطيعتنا عن الفضاء المفتوح الذي نشأنا عليه، ومن مظاهر البهجة فيه حرمتنا من متع الحياة والتمتع بمفاتن الطبيعة.
مشهد قوس قزح أعاد إلى ذهني ذكرى قديمة سبق أن كتبت عنها في زاويتي اليومية بجريدة «الخليج»، وأعدت نشرها في كتابي: «زهرة النيلوفر»، حكاية عذبة عن رحلة إلى عرسٍ من أعراس قوس قزح.
هل حدث أن اقترحت على نفسك رحلة إلى المطر؟.. جرت العادة أن المطر يأتي إلينا، إلى شوارعنا وبيوتنا وإلى أرواحنا فيغسلها من التعب الساكن فيها. لكن أن نذهب نحن أنفسنا إلى المطر فتلك متعة لا تضاهى. الصديق العارف بالغيوم إذ أبصرها من نافذة البيت، اقترح مشواراً بالسيارة إلى الذيد، قال إنها رحلة إلى الغيوم!
نحن نحب الجو الغائم، نحب الغمام، تحضرني حكاية بطاقة تهنئة استلمتها من صديقة روسية في عيد ميلادي عندما كنت مقيماً في موسكو، تمنت فيها أن تبقى سماواتي زرقاء، حين قرأت البطاقة كتبت لها أني أقدر أمنيتها، ولكني أفضل السماء الغائمة على الزرقاء، فهذه الأخيرة معروفة وواضحة وخالية من الفجاءة، أما السماء الغائمة فهي التي تنذر بالغيب والبروق والرعود.. والمطر.
خلفنا الشارقة وراءنا وقطعنا المسافة باتجاه الذيد. على مشارف تلك الواحة الخضراء بدت بوادر عاصفة رملية سريعة. عاصفة من غبار نذير المطر، قال الصديق أنها العاصفة التي تسبق الهدوء، وفجأة برقت السماء فيما قوس قزح بألوان طيفه يعلن بيان الطبيعة الأول عن الفرح المقبل. بدا القوس قريباً جداً حتى يداهمك الشعور بأنك على وشك أن تمسك به. كنا قريبين منه، من السماء.
القوس نقيض الدائرة. هذه مغلقة ونهائية ولا سبيل لولوجها إلا بكسرها، وحين تكون داخلها تدور بك بسرعة تحددها هي، أما القوس، خاصة حين يكون قزحياً فإنه مشروع قصيدة، إنه قصيدة ملونة، والقصيدة إيماءة.. إيحاء، نص مقترح كما القوس الذي هو بنصف استدارته يستدرجك لأن تختار لتكملته الصورة المتوائمة مع مزاجك. بدا القوس كأنه يثب من الجبل المجاور، هل تراه يسكن هناك وحين تناديه الطبيعة يبسط ألوانه حاضناً السماء وحاضناً إيانا.
فجأة والبروق، فجأة والمطر.. هكذا بجنون ونزق وفرح غامر، ثم فجأة و«البَرَد» يضرب بقوة زجاج السيارة. ها نحن إذن في الذيد، «واحة عشب وماء» في مدى الرمل وأشجار السمر والغاف. هذه الأخيرة شجرة برية مجبولة على الصبر وتحمل العطش، ولكنها خضراء طوال العام، كأنها حين يأتي المطر كل مرة تأخذ منه ما يكفي الحاجة ويزيد، فتنهض مشروعاً للحياة وسط الرمال. ها نحن في الذيد، إذن، الواحة التي ربما كانت القوافل تأتيها في زمنٍ مضى بحثاً عن حياة، وإليها يأتي الناس صيفاً للتآخي مع نسمات البر وسكون الواحة.
ونحن في طيق العودة، رحت أتصفح كتاباً ملقى على المقعد الخلفي للسيارة. الكتاب للمفكر عبدالله القصيمي. وفي غمرة ارتواء الروح بالغيم والمطر تقع عيني على عبارة كأنها صممت خصيصاً للمشهد، يا للمصادفة الرائعة!
يقول الكاتب: «أحتج على الغمامة التي تسقط مطراً على بلد لا يحتاج إليه وترفض أن تزور بلداً يحتاج إليها، «ليس للغمام – يقول الكاتب – عذر في أن توزع نفسها توزيعاً سفيهاً»، ولكن الغمامة التي فوقنا كانت جذلى ومعطاء وسخية بالمطر.
ساعة أو أكثر قليلاً، ونحن تحت المطر.. ساعة أو أكثر وتهدأ العاصفة.. نسلك الطريق إياه باتجاه عكسي هذه المرة، باتجاه الشارقة. المدينة هادئة ووداعة والناس منصرفة إلى شؤونها تودع الجمعة وتتأهب لاستقبال صباح السبت. نعود إلى الشارقة كأننا عدنا من كوكب آخر، نحن العائدون من الذيد، واحة العشب والماء التي يأخذك إليها من الشارقة طريق تقطعه في نصف ساعة ليس إلا!
ليس السؤال عن آخر مرة رأيت فيها قوس قزح وحده ما شغلني ساعتها، وإنما أمر علاقتنا مع السماء إجمالا، التي يراها ميلان كونديرا نوافذنا إلى السماء، فمثل هذا السؤال يصح في حالات كثيرة.
متى حدقت آخر مرة في السماء؟ صعب عليّ الجواب. حقاً إني لا أتذكر متى حدث هذا، ربما «أبصرت» السماء وأنا أقود سيارتي ذات ليلة فلمحت القمر من بعيد على سبيل المصادفة ليس إلا. في البدء ظننت إنني الوحيد في ذلك، فجربت أن أسأل محيطاً ضيقاً ممن هم حواليّ: متى حدقتم آخر مرة في السماء؟ كانت أجوبتهم حائرة ومترددة وخالية من اليقين. إنهم بالأحرى مثلي لا يتذكرون متى فعلوا ذلك آخر مرة لا في الليل ولا في النهار.
ليس في السماء ما يثير، انها بالنسبة لهم كما هي. لعل قمراً يطوف بلياليها فيجذب الأنظار، لعل لمحة عابرة تذكرنا بأن ثمة نجوماً ترصع صفحة السماء، لعل غيوماً تطوف بنهارات السماء، غيوماً بيضاً او سوداً او رمادية ترسم ما يشبه اللوحة على خلفية السماء الزرقاء في النهارات السعيدة وغير السعيدة أيضاً، لكننا لا نبصر لا نجوم الليل المشعة ولا غيوم النهار التي تشاغب ضوء الشمس ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وفي الأمر عبرة. اننا لا نحدق في السماء كل ليلة وكل يوم لأننا لا نتوقع ان ثمة شيئاً جديداً سيطرأ عليها. انسان اليوم فقد دهشة الأشياء الأولى وغرابتها وسحرها، واندفع الى علب البيوت والمكاتب والمصانع حيث كل امر بمقدار، كل أمر معد سلفاً وفق برامج وخطوات دقيقة محسوبة، انه «روبوت»، لكنه ناطق ويمشي على قدميه. هامش المفاجأة او المباغتة محدود، او انه لا هامش على الاطلاق. اليوم كما الأمس، والغد سيكون كما اليوم، كل الأيام متشابهة الى درجة مفزعة.
مرة منذ سنوات بعيدة أخذتنا رحلة قصيرة الى قرية جميلة في سلطنة عمان، كان علينا ان نجتاز المسافة بين الشارقة حتى رأس الخيمة، ومن هناك نعبر الحدود ثم نلج الأراضي العمانية. كانت قرية وادعة الى درجة الذهول تقع على سفح جبل خلفه البحر. بتنا ليلة او أكثر في تلك القرية، وكان الجو لطيفاً، نسمات الجبل المتحدة مع النسمات القادمة من البحر تخلق مزاجاً منعشاً، رائعاً، كانت تلك من المرات التي حدقت فيها طويلاً في السماء.
ما زلت أذكر جيداً كم كانت السماء زرقاء صافية وملأى بالنجوم، عدد هائل لا يحصى من النجوم، لا أعرف لماذا بدت السماء قريبة جداً، وحميمة جداً، كأن النجوم على وشك ان تُطال باليد، هل كانت قريبة لأننا كنا على سفح جبل شامخ، هل صفاء السماء هو ما خلق هذا الاحساس الحميم بالقرب، يمكن بالطبع للمخيلة ان تذهب جهات شتى ساعتها، وان تقفز من ذاكرة الطفولة تلك الهنيهات التي لا تنسى عن سماء كانت أقرب إلينا وعن نجوم تغادر منازلها وتهبط الي بيوتنا المشرعة على الفضاء الرحب فتسامرنا حتى الصباح.
ما الذي خلفناه وراءنا من تلك الليالي البيض، ما الذي أخذناه منها وما الذي أخذته.. أم تراها مكثت حيث هي، فيما غادرناها نحن سنة وراء سنة حتى بعدنا، فلا التذكر يدنينا، ولا النسيان يقصينا؟!
حين فرغت من النص اخترت جزءه الأخير لأنشره على جداري في «فيسبوك»، فأثار ردوداً عذبة كثيرة، بينها ذاك الذي كتبته صديقتي الصحفية الفلسطينية نجوى ظاهر، التي كتبت تقول:
«النجوم في الليل لآلئ ماسية متوهجة ، انها لحظة الترقب الطفولية. كانت رؤيتها واضحة أكثر ربما السبب في السماء ! كان بريقها يستحوذ على قلوبنا الغضة وتملكنا كما نغمات الناي الحزين مع أنها مرادفة للفرح كنا نعشق عدها بلهاث مسبوق كان ذلك الطقس لعبتنا وملهاتنا الوحيدة ولم نكن نفعل ذلك خوفا من الخطأ في الحساب بل حرصا على عادات البراءة العفوية على الشرفات وأسطح المنازل العارية إلا من أرواحنا النضرة. مع كلماتك عن النجوم تفتحت الذاكرة الليلية ومعها سنغير المثل الشعبي وسنعدها في الظهر فهل نلمح ضوءها البهي يا ترى!
في وصية امهاتنا الشعبية تحذير من النظر الى النجوم والسبب انها تسبب ظهور البثور والثالول.
أما الصديق الشاعر اليمني والإعلامي في تلفزيون الشارقة رعد أمان فقد أهدانا الأبيات التالية:
«صورُ الطفولة كلما بَعُدَتْ تدانى الشوقُ منّا
ونَزَتْ إليها الروحُ تخلعُ في شعاب الوجد حُزْنا
حتى النجومُ تضاحكتْ ، وروَتْ حكايا الطُّهْر عنّا
إذْ كانت الدنيا انطلاقاً، والمنى لهواً ولحنا
لكَ شكرَنا ( دكتورَنا ) .. قد زدتَ وجهَ الفنِّ حُسْنا !»
*من كتابي «اليوميات» – قيد الإعداد
___
*جريدة عُمان