*أبو بكر العيادي
يعتبر الرسام الياباني أوتاغاوا كونيوشي الذي أقيم له مؤخرا معرض في القصر الصغير بباريس، آخر كبار رسامي اللوحات النافرة اليابانية المنقوشة على الخشب. عاش في عصر الـ“إيدو” (الممتد من 1600 إلى 1868 والذي شهد عودة الميجي، وهيمنة شوغونات توكوغاوا، وكان من نتائجهما غلق أبواب اليابان أمام الأجانب).
ولد لأب صبّاغ تحت اسم يوشيزو، وكان يساعده في ورشته ويعدّ له الرسوم التي سيتولى صبغها، قبل أن يتجه إلى عالم الفن. وسرعان ما لفتت أعماله انتباه فنان قدير يدعى تويوكوني، فقبله في مرسمه منذ عام 1811، وعلّمه أصول هذا الفن حتى صار من أبرز تلاميذه.
وفي عام 1814، اختار له الاسم الفني الذي سوف يعرف به، أي كونيوشي، فمضى يشق طريقه بنفسه. وبدأ كسائر فناني عصره بإعداد ديكور للمسارح وعروضها، دون أن يجد الإقبال المنشود، ما اضطره إلى ترقيع السجاد القديم وبيعه لكسب قوته، إلى أن التقى صدفة بكونيصادا أوتاغاوا، الذي أخذ بيده وشجعه، وتعاونا في إعداد سلاسل متعددة على المنهاج القديم الذي اشتهر به الكبار أمثال هيروشيغه وهوكوساي وسواهما.
وكان التوفيق حليفه يوم أنتج عدة ثلاثيات بطولية، قبل الانتقال عام 1827 إلى سلسلته التي سوف تلقى الاعتراف من أهل الاختصاص ومن عامة الناس على حدّ سواء وتفتح له أبواب المجد في بلاده، ونعني بها سلسلة “سويكودين” أو “الأبطال اليابانيون المئة والثمانية”.
وبعد خوضه تجربة جديدة عام 1830 خلّد فيها مناظر طبيعية خلابة، عاد إلى رسم الأبطال الأسطوريين، مع نزوع إلى العجيب والغريب، ما يدل دلالة عميقة على سعة خياله ومدى تمرّسه بأدوات فنه.
كما أقبل على رسم حسان الغايشة وعاهرات القصور، ما جرّ عليه سخط السلطة، خصوصا بعد صدور إصلاح تينبو عام 1842، الذي منع مثل تلك الثيمات بدعوى صيانة الأخلاق التقليدية، حتى في عالم المسرح والفنون الجميلة، حيث تمّ إيقاف كونيوشي، ثم أفرِج عنه بغرامة مالية. وظل اسمه بارزا إلى جانب الكبار، رغم تدني مستوى أعماله في أعوامه الأخيرة، بسبب انهيار عصبي لازمه حتى وفاته عام 1861 في إيدو (طوكيو حاليّا).
ينفتح المعرض على الشرق الأقصى كما رسمه هذا الفنان الذي يكتشفه الفرنسيون لأول مرة، إذ لم يسبق أن أقيم له أيّ معرض. أولا لأنه عاش في ظل أعلام كبار ألقوا بظلالهم على تجربته.
ثانيا، لأنه لم يكن له تأثير مثلهم في ما سمي بالنزعة اليابانية للفن الأوروبي، كمـا لمسناها عند فان غوخ وبعض الانطبـاعيين، رغم أن كلود مونيه وأوغست رودان كـانا من عشاقـه كمـا أسلفنـا، ومـن هـواة جمـع لوحـاتـه النافرة. عرضت أعمالـه في شكل سلاسـل كـ”حسان على حـافة الماء” أو “الفضائل الثماني”، و”ستة أنهار مـن الكريستال”، و“مـرآة للنمـاذج الأربعة والعشـرين لبرّ الأبناء آباءَهم”، و“بورتريهـات لمقاتلي الساموراي ذوي الوفاء الحق”؛ وهي مستوحاة مـن تـاريخ اليـابان وتقـاليده، حيـث تمتزج البطـولات الأسطوريـة وصور المحاربين الأشـداء بالمخلـوقات العجيبة كأسمـاك شبّـوط عملاقة وتنانين مخيفة، وهياكل عظمية مرعبة.
إذا كان كونيوشي أقل شهرة من معاصريه هيروشيغه وهوكوساي وأوتامارو، فلأنه يختلف عنهم من حيث خياله المجنح، وعالمه غير المألوف الذي يقطع مع تقاليد الفن الياباني في ذلك الوقت. فلوحاته المعروضة، والتي يبلغ عددها مئتين وخمسين لوحة، تبهر الزائر بألوانها البديعة، ودقة خطوطها، وتفتنه خاصة بهذه القدرة العجيبة على الخلق.
يطلق كونيوشي العنان لخيال جامح لا حدود له، حيث نمور وتنانين تخوض صراع جبابرة، ومحاربون ووحوش بحرية يقاومون لجج بحر مُزبد مُرغٍ صاخب، إلى جانب هياكل عظمية لكائنات غريبة تبدو متحفزة، وكأنها تتهيأ للوثوب على فريسة، رغم وجودها أحيــانا في بيـوت مرتبـة ترتيبا أنيقا. ويتبـدّى إمساك كونيـوشي بـأدوات فنـه من خلال رسوم تعبر عن سرديات ميثولوجية تتسم بالرقة والجمـال، سواء مـا تعلق منها بتخليد جمـال الغـايشة، أو بتصوير ممثلي مسرح الكابـوكي، أو بقلب الواقع وجعل الحيوانات، القطط بخاصة، تقلّد البشر في تعابير وجوههم.
أعمال تتسم بالغزارة والكثافة، يلتقي فيها الإبداع بالطرافة والحلم، ولا يزال رسامو “المانغا” (الأشرطة المصورة على الطريقة اليابانية) ومنتجو أفلام الصور المتحركة مثل ميازاكي ينهلون منها القصص والروايات، كما في الحلقات السبع والسبعين لسلسلة “قطعة واحدة”.
________
*العرب