علي عبيدات
خاص ( ثقافات )
بعد اتساع الفجوة بين القيم الإنسانية والقوى الظلاميَّة التي تفتك بآدمية الشرق، زاد الحديث عن التنوير والاصلاح الديني والنقد الثقافي والتصدي للفكر الظلامي باستخدام الآداب والفنون وكل ما يربط الإنسان بالعالم ويفسر جدلية التلقي والخطاب التي تصب في مصب السلوكيات والانتماءات الفكرية والعقائدية.
وانطلقت في العديد من الدول العربية مؤتمرات وندوات تنادي بضرورة الاتجاه نحو التنوير للخروج من مأزق الخطاب الأصولي الذي تسبب بويلات مروعة لسكان الشرق والدول التي تشب فيها نيران الطائفية والقلاقل والصراعات المسلحة، ولم تهدأ نداءات المثقفين والباحثين في النقد الديني وإشكاليات الخطاب في السنوات الأخيرة أملاً بالخلاص من الظلام وبحثاً عن حياة عِمادها السلام.
تختلف رؤى المهتمين والمنشغلين بالتنوير ويرى كل واحد منهم أسباب ما نحن عليه اليوم من فجوات فكرية ونزاعات بطريقة مختلفة، لكنهم يتفقون على ضرورة التغيير والعمل يداً بيد للتخلص من هذا المنعطف الخطير الذي يضر بالإنسان والمكان والتاريخ.
يُعَبِّر الشاعر حكمت نوايسة عن ضرورة التنوير بأسئلة مفصلية تأتي الإجابات عليها كخطوة أولى للمشي على طريق التنوير، ليقول: “يعتمد التنوير على المنوِّر، لكن تنوير بماذا؟ هل هو تنوير بالاشتراكية، أم بالرأسمالية أم بالدولة المدنية والعلمانية أم بماذا؟ ومن الذي يقوم عليه، وما مدى تطابق واقع حال القائم على التنوير مع ما يدعو إليه؟ فهناك كثير من الحركات الراديكالية الشمولية انطلقت من مبدأ التنوير، فأي تنوير نريد؟
وحول الفردية والصراعات ودور القصيدة في التنوير تقول الشاعر والأكاديمية مها العتوم: “لا بد من التأكيد على أننا في هذا العصر، وفي هذه المرحلة، لدينا انهيارات وصراعات، وتتناقص القضايا الجمعية التي توحِّد قلوب الناس وتؤلف بينهم في الأحلام والطموحات، ولذلك تبدو الفردية الأساس الجديد والبديل.
وتضيف العتوم في باب القصيدة المؤهلة للتنوير وممارسة فعل النور: “هناك شعر جيد قليل وشعراء جيدون قليلون، وهؤلاء ليسوا من إنتاج الظرف الصحيح والصحي اليوم، ولكنهم من إنتاج أنفسهم، وبذل الجهد الكبير لمحاولة بناء العالم المفتت في دواخلهم وفي قصائدهم، وهذا ليس خاصاً بالشعر وحده، بل هو عام في كل مجالات الحياة، فلا بد أن يبني الشاعر منظومته الخاصة الفكرية والسياسية والثقافية والإبداعية، وكأنه ينفصل عن العالم، ولكنه في الواقع يتصل به بشروطه وأدواته الخاصة واقعياً وجمالياً.
أما سبل إشاعة وترسيخ التنوير فيراها الروائي زياد محافظة على هذا النحو: إشاعة الفكر التنويري، والتأسيس لبنيان ثقافي حقيقي، ليس قراراً يتخذ باجتماع عمل، أو بمؤتمر فكري أو بخطاب سياسي، بل هو سلوك إنساني جاد وعقلاني، يقوم على تغيير القناعات، وتحرير العقل من أوهامه ومخاوفه وخرافاته، والتخلص من تلك العقد التي أرهقت أمسنا، وتحاصر اليوم حاضرنا، وتريد الفتك بمستقبلنا.
وليكون التنوير منهاج حياة، يضيف محافظة: “أعتقد أن الحرية واحترام كرامة الإنسان وحقه ورأيه، هي المفتاح الذي نستطيع به الولوج للغد بثقة وطمأنينة، المجتمعات المخنوقة والمسحوقة والمكبلة، لن تستطيع السير للأمام، أقصى شيء باستطاعتها فعله هو البقاء في مكانها، وإعادة إنتاج بؤسها وتخلفها. ما لم يكن الواحد منا شريكاً حقيقياً وفاعلاً في تقرير مصيره، فلن يتطلع للمستقبل، ولن يعني له الغد شيئاً”.
ويستند الشاعر غازي الذيبة على المستقبل الذي هو أرضية التنوير دون التغني بالأمجاد ليقول: “على الشعر أن يكون إنسانياً صرفاً ضمن إخوة إنسانية تشاركية مع العالم، وأن ننبذ الحديث عن الماضي والطوباويَّة، فنحن بلا حاضر وبلا ماضٍ ونتكئ على أمجاد قديمة كان أكثرها بسبب الغزو الذي لا أره إنجازاً حضارياً.
ويؤكد الذيبة على التآخي ودوره الكبير لننعم بمجتمع مشرق دون ظلام: “بعيداً عن جلد الذات يمكن أن نلتمس بعض المنجزات والإشراقات العربية الإسلامية لكن لا ينبغي أن نبالغ، نحن شركاء في صناعة الإنسانية، لكننا بهذا لسنا نداً حتى الآن، ولا نستطيع أن ندَّعي أن الثقافة العربية الإسلامية أسست للحضارة الغربية.. لماذا لم نؤسس الحضارة الثقافية شرق الآسيوية أو الأسترالية أو الأمريكية وغيرها؟ على الشاعر أن يكون يقظاً وسط هذه المعمعة لنعرف أين سيذهب الشعر”.
وللسينما حظوة كبيرة بالتنوير من منظور السينمائي بشار إبراهيم الذي يلخص جانباً من ظلامية السينما قديماً: “ينبغي علينا الانتباه إلى أنه من المؤسف أن تاريخ السينما العالمية الرسمي، والمتعارف عليه، لم يرتبط دائماً بمهمات التنوير الفكري، ولا الإصلاح الديني، بل ربما بمهمات ظلامية، من طراز ما يمكن استشفافه من فيلم “محاكمة درايفوس” لجورج ميليه، مبكراً في العام 1899، وهيمنة السينما الإمبريالية، والعنصرية (“مولد أمة” و”التعصب”، لغريفيث في العامين 1915 – 1916)، وانتباه الحركة الصهيونية، قبل أن تنتبه القوى الصاعدة تاريخياً لأهمية السينما، ودورها، والمساهمة الفاعلة في صناعتها (“المدرعة بوتمكين” لإيزنشتين 1925، و”الأم” لبودفكين 1926)، فلم تكن السينما وقتذاك أداة تنوير، رغم أنها قامت بدورها التحريضي الدعائي الثويري (التنويري)، بالقليل من المعايير الفنية والتقنية.
وبعد ردحٍ من تطرف القائمين على السينما في هذا الباب، تغيرت الرؤية السينمائية بعد عصور الحرب والدمار وأصبح للسينما دورها المهم في التنوير وإنصاف الإنسانية ليضيف بشار إبراهيم: “مع صعود حركات التحرر والاستقلال الوطني، والثورات، لعبت السينما صوتاً وصورة وصدى إبداعياً على قدر من الأهمية، إلى درجة أنها تمثل الذاكرة البصرية التي لا تنطفئ لهذا الحراك، والأرشيف النفسي والوجداني والفكري للقضايا الكبرى، الوطنية والقومية والإنسانية، ريثما يتم الانتقال، مع العقد الأخير من القرن العشرين، ومطالع القرن الحادي والعشرين، من زمن القضايا الكبرى إلى زمن التفاصيل الصغيرة، حيث تبدَّى الإنسان وشؤونه وشجونه؛ آلامه وآماله، في مقدمة المشهد السينمائي، ساعياً إلى التغيير بوصفه جوهر القضايا؛ التغيير المرتبط بالتنوير الفكري، والإصلاح وتجديد الخطاب الديني، والتصدي للفكر الظلامي، والقهر والتعسف والإرهاب. التغيير المرتبط بممارسة النقد، وحرية الرأي والتعبير وكرامة الإنسان”.
وتعلو أصوات الحالمين بالتنوير والساعين إلى استكمال مسيرة قادها الفلاسفة العرب قبل سنوات وانطفأت في العهود الأخيرة حتى أخرجت لنا المتطرفين والظلاميين الذين عاثوا في الأرض خراباً، ليكون التنوير بهذا فرض عين وواجباً على كل مثقف ومبدع باختلاف المجالات والرؤى التي تصب في نهايتها في مصب واحد، وهو الاعتدال والعيش بسلام دون تطرف.