رِفْعَتْ


*سمــــــــر الزّعبي


خاص ( ثقافات )
11:30 تحضّر نفسها كي تلقاه.
1:15 تغادر سكن الطالبات.
1:16 تصبح حديثَ البناتِ، ومائدةَ نميمَتِهن.
لا تصحو باكراً، تهمل دوامها الجامعيّ، ولا تُرى حتى التاسعة مساءً، وغالباً ما تتأخر، تدخل بموجة توبيخٍ مُعتاد، ولا تكترث، رغمَ تهديد المشرفة باطلاع ذويها.
هذا برنامج يوميّ، وحينما يحضر أبوها بإشعار من المشرفة، يُسمع صراخهما من وراء الأبواب، فتخمّنُ البناتُ أنّها تُضرب، ويدخلن متعذّرات بأكواب الشاي، ثمّ تختفي الزّوبعة بعد حين.
تجمعهن قاعة استراحة، تتوسط الشقق المتقابلة، يتزاحمن على مرافقها؛ المكتبة، التلفاز، والأجهزة الرياضية، ثم يتركن ما بأيديهن حينما تحضر، يتحلّقن حولها، والفضول يدسّهن في أدق التفاصيل، يستمعن لما ترويه.
يمعنّ في متابعتها تغادر السّكن، في أكثر الملابس أناقة، وعطرها يجتاح الشوارع، يأخذهن تأمّلاً، يتنهّدن، ويحسدنها. 
حينما تشغّل المسجّل، وتدعوهنّ للرقص، ثمّ تباشر هي، تتطوّح كالسكارى، تطلق النكات، وتعلّق على البدينات، وفارعات الطول، يعرفن أن اليوم مضى على خير. أما إن عادت بكشرةٍ، وحفنة دموع، يُستدلّ على أنّ خطباً ما حصل، فتبدأ مكالمات المصالحة، التي تقودها البنات، حتى يسكت عنهُ الغضب، فيتصل بها، يقدّمُ بطاقة المراضاة.
إن غاب عنها لأمر طارئ، لا تفارق درجَ السّكن، تجلس بأثواب حزنٍ وشوق، تتفقد الهاتف، لا يبعد ذراعاً، تقرّبه بتنهيدة، وتعيده باكية. تكاد تفلت علبة “البيبسي” من يدها، فتلتقطها، تلقي أعقاب السجائر على الدّرج، مما يضايق البنات، لكن لا يجادلنها، لأنهنّ يعلمن جميعاً أن ملحمةً ما ستقع. 
فيها حزنٌ متجذّر، خوفٌ ينضج مع الأيّام، رغمَ عرس المساء الذي تقيمه والمحتفلات بها فورما تعود، يُلمح في شرودها، بعدما تنفضّ المسامرات، أو حينما تحتسي قهوة الصّباح بخدرٍ، بينما يمسّهنّ تيّارٌ كهربائي في الوقت ذاته، يتسرّبن الواحدة تلو الأخرى إلى الجامعة.
رِفعتْ الذي أحبّها، أربعُ سنوات انقضت من عمر الشوق، ائتلفت فيهما أرواح الحب، وصار كلٌ منهما عطراً للآخر، في مكانٍ ما تنفّسا بعضيهما البعض، كي لا يختنقا. تبادلا القمصان ذات جنون، وأخطأ كليهما بفرشاة الأسنان مستخدماً خاصّةَ الآخر، والأيّامُ تتْبعُ خطاهما الواثقة السّريعة، وما لحقتهما، إلّا حينما أُسْدِلَ السّتار بيدٍ مجهولة، يحملها جسدُ فتاةٍ أخرى، كلّفته شراءَ دفتر مذكّرات جديد، وتغيير عنوان الصّفحة.
أمّا هي..
من هي؟
روضة!
أو بقايا منها، نجت من محاولة انتحار، وبعدما شُفيت وعادت للسّكن، زادته صخباً وتوتّراً:
11:30 ظهراً، درجُ السّكن الدّاخليّ مجلسُها، تهزّ جذعها كبندول قرّر تغيير مساره، للأمام.. للوراء. 
6:00 صباحاً، تتشارك البناتُ في نقلها نائمة إلى غرفتها.
هذا برنامجٌ يومي.. أو تتربّع على طرف السرير، تتكتّف، تهزّ جذعها، وهي تردّد بين نفسٍ وصداها: 
“ليش تركتني رفعت؟”..
“لإني ملّيت”..
ثم تطلق ضحكة عالية، يأكل صداها الهواء، وتركض كي تلقي نفسها من النافذة، والبنات يتناوبنَ على حراستها.
أقيمت مراسيم الحزن في السكن.. ألفَ سنةٍ ضوئيّة من الحب، وخمدت جوارحه مرةً واحدة، كأنّما نوبة خرَسٍ أصابت الجدران، حينما جُمعت مقتنياتها، وسنيَّ دراسةٍ تأخرَ فيها التخرجُ ثنتان، وودّعت البناتُ أبا روضة من خلف نوافذٍ شواهد، وهو يحيل الأغراض إلى ظهر شاحنة صغيرة، يوثق رباط الحبال حولها، يعدل “الشماغ” و”العقال” بكفٍ تشقّق فيها الصبر، ثمّ يلوّح لهنّ بالوداع.
________
*قاصة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *