*د. عمران القيسي
اسمه الكامل رامبرانت فان رين (Rembrandt Van Ryn) ولد سنة 1606، وتوفي عام 1669 وهو معاصر لأبرز نخبة من فناني الفلامنك والدوتش (الأراضي المنخفضة) في القرن ال17 بل اعتبره العديد من نقّاد الفن المؤسّس الأهم لمدرسة التفاصيل الفلمنكية التي أفرزت بيتر بول روبنس، 1577-1640، وسير انطوقي فان دايك، 1599- 1641، وبيتر دوهوش، 1629-1683، وأخيراً جان فيرمنت 1632-1975. لكن رامبرانت الذي توزّع على موضوعات محددة ذات أهمية استثنائية بالنسبة إليه، انصرف في منتصف عمره إلى رصد التحولات التي بدأت تطرأ على ملامحه، معتبراً ذلك إشارة إلى التفاعل الحيّ مع الزمن، وأنه لم يكن يخاف أو يخشى الشيخوخة، بل قرر أن يتعامل معها كمبعث لشخصيته الفذة، التي لولا حصول هذه التحولات لما استطاع أن يطوّر أساليبه التحليلية أصلاً.
يرسم رامبرانت صورته الذاتية سنة 1650 بحجم 75.5× 92 سنتيمتراً من أجل أن يؤكد انتماءه الحقيقي للعالم «الهولندي» آنذاك وهو في بداية تكوينه للشخصية المستقلة عن الإطار الفلمنكي العام. لكن هذا الفنان المولع بلعبة الإضاءة والنور. سوف يبرز صورته الذاتية بوصفها القوة الطالعة من العتمة إلى النور، ولهذا يركز في ضرباته بالألوان المكملة المضاءة بالأصفر على منطقة الجبين لكي يمنحها النور الزائد الذي يكشف في الأغلب عن قدر من النرجسية وحب الذات. ولو قارنّا بين صوره العديدة التي رسم فيها ذاته، والصور الأخرى التي رسم فيها الآخرين، فإننا سوف نلحظ في لوحة «التركي» أو النبيل التركي التي رسمها عام 1630 بحجم (74×98) سنتيمتراً بأن هذه الصورة خالية من التركيز على الوجه، بل هي مركزة على الإكسسوار، فيما لوحة الفيلسوف التي أنجزها عام 1650 بالزيت على الخشب، وهي صغيرة نسبياً وبحجم 49.5×61.5 سنتيمتراً فإنها محاطة بهالة نورانية طافحة، كدلالة على الفكر التنويري.
مع ذلك كلّه فإن دارسي رامبرانت لاحظوا بأن أغلب أعمال هذا الفنان حتى الذاتية قد بيعت، وهو لم يزل على قيد الحياة، لكنه كان يناقش الذين يقتنون هذه الأعمال بتأكيده على أنه يرسم ذاته ليرصد خطوط العمر التي تنطبق على وجهه بالذات، وأنه يشاهد في اللوحة الذاتية عينه وهي تغور عميقاً نحو الروح، حيث الرؤيا هناك وليس في العالم المرئي.
أن أغرب عمل أنجزه هذا الفنان عام 1642، هو لوحة الطاحونة الهوائية، وهي كما كان يردد الصورة الذاتية للريح الحرّة في الطبيعة، ولو دققنا النظر في هذه اللوحة بالذات، فإننا سوف نجد سماء نصف ملبّدة بالغيوم وهضبة حصدت الريح كل ما عليها من زرع، وبناء غامضاً لطاحونة هوائية يضيء مروحتها الكبيرة نور لا نعرف مصدره. إنه حضور للفعل على حساب السكون. لذلك تجيء هذه اللوحة كشهادة على الحياة الطبيعية الساكنة والتي تنبعث الحركة من سكونها الأزلي، علماً بأن هذا الفنان لم يرسم لوحة الحياة الساكنة.
أما الصورة الشخصية الأهم، والتي يحتفظ بها متحف لينين غراد منذ عام 1942، ويبدو هنا أنها من الأعمال الفنية التي نقلت إلى بعض المدن السوفييتية خلال الحرب العالمية الثانية، نقول إن الصورة الأهم والأجمل هي بحجم 99.5 × 82.5 سنتيمتراً، هي صورة السيدة بالمروحة الريش، وهي تنهض على معادلة ضوئية تصلح أن تكون أساساً لدراسة الوعي النوراني عبر نظام المثلثات الضوئية التي طالما اشتغل عليها الفنانون الفلامنك في القرن السابع عشر.
إن الضوء الساقط على الوجه يقدم تفصيلات حيوية للحياة بعيداً عن الجمال المفتعل، فالوجه الثلاثيني لسيدة هادئة غير متباهية يستغرقه ضوء يمنح ذاته على الرقبة والكتف لينقطع بالأسود الحاد ويعود وهاجاً على اليدين، هنا اللعبة الذكية التي يتقدم بها هذا الفنان صوب العلاقة بين النور والصورة الإنسانية، إنه أول فنان تأثيري سبق الانطباعيين بأكثر من مئة وخمسين عاماً، فلا غرابة أن يصير إمام المصوّرين التأثيريين الهولنديين فيما بعد. وأن يتأثر به الفنان فنسنت فان جوخ.
يقول الناقد الأمريكي «جون وولكر» في تقديمه للمجلد الكبير «متحف الفن العالمي» – The National Gallery of Art- الصادر في واشنطن، إن رامبرانت وعلى مدى أعوام التصوير سوف يتقدم بوصفه العين التي تحلّل النور، وتدرس أثره في الصورة. لذلك جربه على ذاته دارساً عبره التحولات الكبيرة التي يعيشها الفنان شخصياً.
ما بين 1640- 1660 رسم رامبرانت العديد من الصور الشخصية لرجال كان همّهم إبراز الجوانب الخاصة باهتماماتهم. كالأناقة، والرجولة والتباهي. فكان يلبي هذه الطلبات بعد حوار معمق مع الذي يرسمه، فمثلاً صورة الشاب الجالس على الطاولة والتي رسمها عام 1662، نراها مغرقة في التفاصيل، لأن ما يهم الشاب هو المحيط والمجتمع، فيما صورة الرجل بالقبعة الطويلة وهي مرسومة عام 1660. سوف تركز على الوضعية التي تبرز القيمة الاجتماعية للقبعة.
لكن عندما يرسم ذاته بتلك (الكاسكيتة) السوداء البسيطة التي تغطي معظم شعره، فإنه يصر على أن يركز الصورة التفصيلية على العين والأنف والجبين، لأنها المناطق الأساسية التي يتحرك في مساحاتها الزمن.
بالتالي وكما يقول الكاتب (أوسكار وايلد) على لسان بطل الرواية «دوريان غراي»: «إذا الفنان حين يتأمل ذاته في المرآة، سوف يرى وجهاً اكتسب من ملامح الآخرين أسراراً كثيرة. ومنح الآخرين سراً وحيداً كان يجب أن يحتفظ به لذاته».
فهل يا ترى سعى رامبرانت إلى أن يمنح الذين جاؤوا من بعده ذلك السر الغريب الذي سهل عليهم تعقّبه، وتقليد رسوماته لذاته، حتى إن أحد أحفاد هذا الفنان الذي كان يوقع تحت اسم كامي -Cami- صار من أبرع الرسامين الذين قلّدوا رسوم رامبرانت الذاتية، بل هو الأشهر على الإطلاق، وقد توفي عام 1956، لكنه خلف مجموعة هائلة من الرسوم (الرامبرانتية) وهي موزعة في أغلب أصقاع العالم. إن الدرس الكبير الذي قدمه للفن هذا الرسام الهولندي – بأن الفنان الذي يدرس نفسه، يستطيع بكل بساطة أن يقدم دراسات معمقة عن الآخرين، وعن الطبيعة، وعن العالم الخارجي المدهش الذي يعيشه. فلا غرابة أن تصير مدرسة رامبرانت مدرسة مستقلة تعلّم الذين يدرسون أسرار الرسم، علاقة النور بالصورة وأثرها الزماني في تحولات الوجه.
_______
*الخليج الثقافي