في مدينة الوجوه البيضاء!


* أمجد ناصر

الأمر، بكل بساطة، يتعلق بـ ‘خطأ’ أو مزحة.
كنت ترتدي، بعد مغادرتك بلادك، قناعاً لم يعرف سوى اثنين أو ثلاثة، في المدينة التي لجأت إليها، أنه قناع وليس وجهك الحقيقي. كان القناع طبيعياً لدرجة يصعب الشك فيه: وجه بلا علامات فارقة. ليس وجه إله، كما فعل سابقون، ولا وجه نمر أو أسد من الصور المتحركة، كما يفعل صبية مشاكسون راهنون، بل وجهٌ عاديٌّ ممسوح. عندما قدمت باكورتك الشعرية إلى شاعر كبير ليقرأها وربما ليدفعها، بشفاعة اسمه، إلى دار نشر، لم يشك الشاعر الكبير، على ما يبدو، في وجهك. اعتبرك بلا قناع ربما. قرأ تلك الكلمات التي ينهل بعضها من صحراء وبدو وصدمة ساذجة تسمى المدينة، فقال: هذا البدوي القادم من قبيلة….
من ‘لورنس′، من ‘ديفيد لين’ أو من معرفته بقبائل بلادك البعيدة (من الصعب الجزم) جاء ذلك الوصف الذي خلعه عليك الشاعر الكبير فصار قناعاً فوق قناع. انطبع ‘الخطأ’ على غلاف. شاع. صدَّقه آخرون. أعجبك القناع الجديد. فذلك زمن الكرنفال الكبير في مدينة ‘الوجوه البيضاء’ (وهذا عنوان رواية اشتهرت آنذاك).
جاءك، ذات يوم، شاب عابر في تلك المدينة. تمعَّن فيك قليلاً، فقال الشاب حازراً ريبتك التي كانت، يومذاك، مذهباً: لا تطل التحديق فهذا هو وجهي الحقيقي. شدَّ خدَّه ليريك أنه من لحم وليس قناعاً. لكن الشاب العابر لم يترك اللحظة المتوترة لمزيد من الشك والتساؤل فأضاف سريعاً: إنني هنا لسببٍ غير سببك. فأنا عابر في هذه المدينة ولا أحتاج قناعاً وهذا هو الدليل.
أخرجَ من حقيبة يده الجلدية كتاباً.
وضعه على الطاولة أمامه.
كان باكورتك المطبوع على غلافها الأخير اسم قبيلة.
كان الشاب عابراً في المدينة التي يلــعلعُ فيها كــــلام ورصاص طائشان وظنَّ أنك قريبه في مدينة ‘الوجوه البيضاء’. مدينة الغرباء. سألك إلى أيّ فرع تنتمي. فقلت له، بشيء من الحرج، إنك لست من قبيلته، وأرجعت الخطأ إلى شاعر كبير لم يتحرَّ الدقة، أو أراد أن يلعب مع ألقاب لا يُلعبُ معها بخفَّةٍ كهذه.
خاب ظنّ الشاب الذي اعتقد أنه وجد قريباً له في مدينة الغرباء، أو لعله لم يصدقك. فقد كان قناعُك مُقنعاً. تذْكُرُ أن الشاب ربَّتَ، قبل مغادرته، على صفحة الكتاب الأخيرة حيث نُقِشَ اسم قبيلته وقال لك: لا يهم من تكون، أو لماذا أنت هنا. تعال إلى زيارتي عندما تعود!
ثم أدركتَ، ولكن بعد أن انصرف الشاب العابر، لِمَ أخطأ الشاعر الكبير الذي قدَّمك إلى مجمع آلهة تلك الفترة.
‘ ‘ ‘
كما في الشمال لم تبق في جنوب البلاد قبائل حقيقية.
البداوة الموصوفة في الكتب هي أصداء وفلكلور،
وربما حنين خافت في ذاكرة مسنّة تتناقل الحكايات.
مَنْ الذي قال إن القبيلة مجرد اسم؟
ثمة من وصف القبائل، في عزِّها، هذا الوصف
ولم تصدقه عندما سمعته أول مرة.
‘ ‘ ‘
لقد مرت ثلاثون سنة على تلك الحكاية. ها أنت تقرر زيارة ديار الشاب الذي جاءك، ذات يوم، حاملاً باكورتك الشعرية في مدينة ‘الوجوه البيضاء’. تسأل عنه في البلدة التي سماها لك. فيقول لك رجل بدا، لِعَجَبك، أنه يعرف تلك الحكاية: هل صدَّقت فعلاً حكاية البحث عن ابن قبيلة في تلك المدينة؟
لم تفهم.
يوضِّح الرجل: ذلك الشاب الذي جاءك حاملاً باكورتك الشعرية لم يكن عابراً بريئاً. أنت صدقته. لكنه جاء ليراك أنت لا ليبحث عن ابن قبيلته الذي أصبح شاعراً. فهو يعرف أنك لست من قبيلته، لقد أرسلوه خصيصاً ليراك! تساءلْتَ مندهشاً: أرسلوه ليراني؟ أجابك الرجل الذي بدا، لعجبك، أنه يعرف الحكاية: هل ظننتَ أن قناعك انطلى عليهم؟ ثم بعد برهة صمتٍ قال مبتسماً: يبدو أنك لم تعرفني رغم أنني أعرف الحكاية. لم تفهم مغزى كلام محدثك إلاَّ عندما شدَّ الرجل، الذي يعرف الحكاية، خدَّه وهو يضحك.
ضحكتَ أنت أيضاً.
____________
* شاعر من الأردن يقيم في لندن(القدس العربي)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *