وليد جمعة.. الوجوه المتعددة


*عواد ناصر


“ملثم بالموت/ عندي له عدته الرثة/ حبل من القنب، لا مقصلة/ملحوظة من عتعتات الزمن/ وتفلة على غباء الوطن/ وحفرة/ في قاعة الخلد أو.. المزبلة”. 
وليد جمعة
منذ قرأت خبر رحيل الشاعر وليد جمعة وأنا فاقد التركيز الذهني وهو الذي كان يصفني بأنني أتميز بـ”صفاء ذهن حاد”!
ولأنني عشت معه عن قرب ملتبس، زمناً طويلاً، بين بغداد ودمشق وبيروت ثم دمشق، ثانية، حتى لم نكد نفترق إلا إثر خصومات أو مناكفات كان يأتيها هو لا أنا.
حكاياتنا كثيرة، مربكة، محرجة، مبهجة، عراك (من طرف واحد) وسوء فهم مديد، وتفهم متكرر، من جانبي على الأقل.
الكلام عن وليد، حياً أو ميتاً، لا يخلو من إحراج.. فلصديقي اللدود وجوهه المتعددة، وأحسب هذا أمراً مألوفاً لشاعر مثله، شاعر لا يشبه غيره.
كان شتاماً من طراز بذيء يليق بمرحلة بذيئة.. صدمتني بذاءته، أنا الشاعر الشاب (أوائل السبعينات من القرن الماضي) والمتردد الحذر، إذ أقتحمُ عالم الثقافة البغدادية المليء بمكائده وعقده والتباساته الآيديولوجية والشخصية، وفي يوم سألته: وليد، ألم تحب “شيئاً” ما في حياتك؟ شاعراً، امرأة، فرساً (كان مدمن سباق الخيل)، صديقاً، فيلماً سينمائياً” أغنية؟”.. اعتقاداً مني أن الحب يهذب اللغة.
يفاجأ وليد بالسؤال.. يصمت ويبدأ يفتل شاربه، وهي واحدة من علامات توتره.
التقيته في اليوم التالي، مساء، في “كهوة إبراهيم” كما يفضل أن يسميها لا “مقهى المعقدين” وإذا به يناولني قصيدة يريد نشرها في صحيفة “الفكر الجديد” الشيوعية الأسبوعية.
عنوانها “تحيات عطرة” يبدأ كل سطر فيها بحرف اللام إهداء لما بعده ومنها:
“لأبي في ذاكرة الإخوة
للحزب ثلاثاً (*)
لمؤيد شكري الراوي….”.
وتتوالى “لامات” الإهداء في قصيدة ضلت طريقها بين طرق ومتاهات شعر وليد المألوف، المعروف.
.. وإذ ألتقيه بعد أسبوع في “الكهوة” نفسها، كان متوتراً (زعلان) يفتل شاربه بعصبية.
علق أحد الحاضرين: يا وليد، قصيدتك في “الفكر الجديد” رائعة.. أين كنت تخفي كل هذه المحبة؟
يرد وليد، وهو يشير إلي: هذا “أخ الكـ…..” هو من ورطني بالمحبة.
هل كان نادما على ما أبداه من “محبات” لـ “أشياء” جميلة في ذاكرته وحياته؟
القصيدة تلك أحد وجوه وليد الخبيئة التي كشفها في لحظة صدق شخصية، أفلتت منه شعراً، لأن الشعر لا يقبل الأكاذيب.. وأكاذيب وليد، وحتى عدوانيته، لم تكن إلا نوعاً من الدفاع عن النفس.
لم تكن تلك القصيدة خارج سياق الشاعر المتوتر، الضدّي، الصادم، العبثي، بل هي كشف لموجود أساس في حياته، لكنه غير مُعبّر عنه، لأن وليد شاعر لم ينفصل عن شعره، كأغلبية الشعراء، لم يكن شيزوفرينياً إلا بما يمنحه كدريئة ضد الظلم والقسوة والبذاءة.
وليد جمعة شاعر تسير قصيدته معه، جنباً إلى جنب، لا يسبقها ولا يسير خلفها، ولا يفترق عنها في الانعطافات الحادة.. هما حياة تطير بجناحين كسيرين لبلوغ صواب ما، إذا افتقده الشاعر في الحياة اليومية فهو حالم به شعراً.
كان وليد ضد المؤسسة.. أية مؤسسة.
سألته يوماً: ما أفضل قرار اتخذته في حياتك؟
أجاب فوراً: التخلص من العائلة!.
كتب يقول:
“إنه يكره أمّه
ويحبّ السينما والمتنبي”!.
فعلاً، كان يقيم في أرخص فنادق الباب الشرقي، وأقذرها.
لا يملك غير ملابسه ومخطوطة شعرية (يحتفظ بها في أحد أدراج طاولته حيث يعمل موظفاً في مديرية التقاعد (الكرخ).
أستفزه: لكنك موظف في مؤسسة؟
يغضب: لتدبير حاجات المعدة التافهة وربعية العرق.
بالمناسبة، لم يكن مثل مدمني العرق المعروفين، إنما كان مقلاً جداً. رغم أنه يتناوله يومياً.
يتناول ما يعينه على النوم فقط.
واحدة من “معاركه” معي كانت بسبب تناولي قنينة بيرة ظهراً في حانة بغدادية.
كان وليد يعاملني مثل أخيه الأصغر، بالغضب والحنان معاً.. وكان “يراقبني” أيضاً: ماذا قرأت وماذا كتبت مثل “الأخ الأكبر” بالمعنيين: معنى جورج أورويل وحرص المربي القاسي.
عندما لازمتني، لفترة في بيروت، أزمة نفسية أفقدتني شهيتي للطعام تولى وليد “رعايتي” مثل أم تحتال على وليدها ليتناول رضاعة الحليب.. كان يضع لي الكمائن كي آكل.. بل كان يطعمني بيده!.. هذا أحد وجوهه المتعددة!
خاصمني ولم يكلمني لمدة شهر تقريباً، في بيروت، لأنني كتبت عن رواية كاتب عربي لا يحبه وليد!
يعلق: القراءة والكتابة، حسب رأيه، تليق بعظماء الكتاب فقط.
وليد قارئ نهم للروايات أكثر من قراءته لدواوين الشعر. منه تعلمت هذه الخصلة.
لم يغادر وليد غرفته البائسة، قرب ساحة عرنوص، بدمشق، لثلاثة أيام وهو عاشق المقاهي، لأنه مشغول بقراءة رواية “يوليسيس” لجيمس جويس!
أغلبية أصدقاء وليد، وربما كلهم (لا أعرف كل صداقات وليد بالضبط) كانوا شيوعيين!
لكنه ناقد شديد اللهجة للشيوعيين عندما “يرى” موقفاً سياسياً خاطئاً.
كانت “نقاشاتنا” السياسية تحتدم، في بيروت، مثلاً، حيث جراحنا لم تزل طازجة، فوجئنا، نحن المقيمين في شقة بحارة “برج أبو حيدر” في غرب بيروت (كان شرقها عدوّا) فوجئنا بورقة ملصقة على الحائط، قرب سريره، بخط يده (كان يتمتع بخط يد جميل جداً) تقول:
“مع الحزب الشيوعي أخطأ أم أصاب”!.. وهذا وجه آخر.
ثلاثة شعراء: سعدي يوسف ووليد جمعة وعواد ناصر في شارع السعدون يتجهون نحو بار “سرجون” في ذروة ازدحام الشارع المليء بدور السينما والحانات ومقاهي أبو نواس القريبة، خاطب وليد المارة ومنتظري الباصات بصوت مسموع:
“هذا أعظم شاعر عراقي (يقصد سعدي) ولكنكم لا تعرفونه.. لو كان سعدون جابر لركضتم خلفه زرافات ووحدانا”!.
وفي الجلسات الخاصة كان يشتم سعدي بأقذع الألفاظ ! .. وجه آخر.
وجه خاص جداً:
زرته حيث يعمل في “مديرية التقاعد” وكانت ثمة سيدة، هي إحدى زميلاته في القسم، تجلس لصقه، بينما هو يقرأ لها قصيدة له.
يُحرج وليد. تعود تلك السيدة إلى مكتبها المجاور. أناكده:
ها وليد؟ تقرأ لها قصيدة؟
يجيب فوراً: بل أقرالها “غزالة”.. وهي لهجة عراقية تعني: أنصب لها كميناَ.
ووليد كريم النفس واليد، ولم أعرف أنه حرص على أية ملكية شخصية وهو مريد الفنادق الرخيصة.
كان لديه قلم حبر، عندما كنا ببغداد، وهو قلم مصمم للخط، حيث ريشته المقطوعة بشكل مائل، مثل قصبة الخطاطين، قلم من الأنتيك يعتز به كثيراً. ولما أدرك وليد إعجابي بالقلم قدمه لي فورا، كهدية لم أزل أحتفظ به حتى اليوم.
قال: تستاهل، لأن خطك جميل أيضاً.. ومن يمتلكون “موهبة” الخط الجميل يقدرون قيمة الأقلام الثمينة.
يكتب وليد:
“راجيا من كوابيسه
أن تجيء على مهل
حيث أحلامه الشاحبة
شاحبة،
وصحوته الكاذبة:
“ثراء التفاصيل، وفقر النوايا”
لقد كان حلما عجيبا
فلا مسلك الضيف كان غريبا
ولا رهبة الموت رهبة”.
رغم تمسكه، بالوزن والقافية، قبل أن تشكل قصيدة النثر سلطتها الإعلامية، لكن قصيدة وليد “تنتثر” عبر جماليتها الداخلية والمعنى الضروري للنص للشعري، وخصالها اليومية التي يقتبسها من السوق والحانة والرصيف والمقهى، ليأتي بقصيدة هي صورة الناس في أحوالهم المزرية.. له قصيدة بعنوان “العربنجي”!.. قصيدة شعبية مكتوبة بالفصحى.
تقرر أن تكون الصفحة الأخيرة بعنوان “صفحة المحرر” في صحيفة “الفكر الجديد”.. أواخرعام 1978 الشيوعية الأسبوعية، تخصص لكاتب ما يملأ صفحته (يحررها) بما تجود بها ذاكرته الثقافية والفنية، على أن للجرح الفاغر صوته، فأنّى لنا أن نغرّد في أفخاخنا المنصوبة في الشوارع، والمطاعم والبيوت والحانات وفي الجريدة، أو على مقربة منها (دائرة الأمن العام).
كانت الأيام البغدادية، أواخر عام 1978 تزداد عتمة، بينما تمتلئ الشوارع ودور السينما واتحاد الأدباء والحانات والمطاعم وباصات نقل الركاب بالعيون البوليسية.. عيون ترانا ولا نراها طبعاً، ولم يكن لدى العصبة المتبقية منا (الفرقة الناجية) غير تمسكنا بجمرة توشك على الخفوت، وبيننا من يتمسك بهذه الجمرة لسبب خارج دفئها الضئيل، الموشك على التلاشي، إنما ثمة موقف أخلاقي يتلخص بالوقوف ضد الدولة البوليسية وحقنا في الحياة.
تكونت في مقهى ابراهيم الذي يحلو لحملة العقائد الغليظة أن تسميها “مقهى المعقدين” فكرة ثقافية/ موقف أخلاقي يتلخص بضرورة التصدي لدولة الثقافة المخابراتية ومقاطعة نشاطاتها الأدبية والفنية.
مررت على تلك المقهى حتى تصدى لي الشاعر وليد جمعة، وكان صديقي، بشكل غاضب وكأنني ارتكبت جرماً: كنت أمس في اتحاد الأدباء؟ هل تريد أن تصير أديباً؟ عيب عليك!.
ألم أقل إنه ضد المؤسسة.. أية مؤسسة؟
كان إعدام لاعب كرة القدم الدولي بشار رشيد في الـثامن عشر من ايار (مايس) عام 1978 ورفاقه بتهمة تنظيم شيوعي داخل الجيش العراقي، شرارة أشعلت حريقاً كبيراً ليس داخل الوسط السياسي، حسب، إنما داخل الدولة الجبهوية الفاشية نفسها، عدا الوسط الشعبي والرياضي العراقي.
طرحت على وليد فكرة إقامة “خلية طوارئ” ثقافية تقدم ما يمكن لفضح السلطة الفاشية في بغداد، دفاعاً عما تبقى من وجودنا المهدد جسدياً وثقافياً.. رحب الرجل بالفكرة وباشر عملياً بالتنفيذ، وهو الشاعر الذي كان ضحية حملة خيرالله طلفاح التي صبغت أفخاذ البنات ذوات التنورات القصيرة وحلقت شعور الشبان (الخنافس) بداية السبعينات.
كان شعر رأس وليد جمعة لم يزل حليقاً، أي أن ماكنة حلاقة طلفاح قد انتهت للتو من حلاقة قصائد وأفكار وتخرصات سياسية، غير أن القصائد، مثل الشَعَر، ما أن تُحلق حتى تعاود النمو والظهور مجدداً بتحدّ مجيد.
وقتها نشر لي الراحل شمران الياسري قصيدة، أعطاها الأولوية على نصوص شعراء معروفين، في مجلة “الثقافة الجديدة” عنوانها “قصيدة لم يقرأها شاكر” وهي مرثية للشهيد الشيوعي شاكر محمود الذي اغتالته سلطة البعث بداية السبعينات (القرن المنصرم) ومنها:
“هل أعطيكم أرقام السيارات اللاتي لا تحمل رقماً،
ماذا والقانون..
مشغول بملاحقة الشبان ذوي الشعر المسترسل 
والأدب المجنون؟”.. 
علق وليد، بعد نشر القصيدة، وكأنه الإمام علي بن أبي طالب يأمر أبا الأسود الدؤلي: انح هذا النحو.
كان وليد جمعة وافق على حضور أمسية شعرية باتحاد الأدباء ولم يزل (شعره/ قصائده) حليقين، فألقى قصائد صادمة “صفعة للذوق العام” مثل ماياكوفسكي، وأتذكر مما قال:
“لوزير الداخلية/ عفطةٌ قبل صباح الخير حتى…”.
وكما اختزنت تلك الاختزانات مواقف ستنفع وقت الشدّة، فاتحت وليد جمعة بفكرة “خلية طوارئ” ثقافية/ صحفية لتوجيه ما يمكن توجيهه من تحريض في زمن المحنة والرماد الذي بدأ يعمي عيون العراقيين جميعاً.
التقينا بالسيدة سلوى زكو في مبنى الجريدة، رغم المخاطر التي تطوقنا، وكان وليد يردد أن شعار المرحلة هو (.. ولا من محيص).. وضعت زكو بين أيدينا ملفات ثقافية لكتاب عراقيين وعرب، موضوعة ومترجمة، فهالنا ما قرأنا من مقالات رائعة “غير صالحة للنشر” رغم أهميتها الثقافية والفكرية والإبداعية، لأنها تتعارض مع ثقافة الجبهة الوطنية.
قال وليد: هذا وقتها!.
قالت سلوى: لننشرها، إذن.
ولدت “صفحة المحرر” وهي الصفحة الأخيرة في “الفكر الجديد” بعد أن توقف يوسف الصائغ محتكرها لمقاله “على حافة الشعر” ليتناوب على النشر فيها، وليد جمعة وأنا واثنان آخران باسمين مستعارين أو حقيقيين أحياناً. 
بصراحة: كان وليد أجملنا، وأكثرنا جرأة، في تحرير “صفحة المحرر” بيننا جميعاً!.. سمى البعثيين بالاسم كقتلة.
فاجأتنا الدكتورة سلوى، ذات مساء، بمكافأة مالية كبيرة، قياساً بإفلاس تلك الأيام، قدرها عشرة دنانير لكل منا، وليد وأنا، فما كان مني إلا أن أعيد المبلغ متبرعاً للجريدة التي تشهد أيامها الأخيرة، وما كان من وليد أن فعل مثلما فعلت، بتحفظ بان في شاربيه المرتعشين.
غادرنا مبنى “الفكر الجديد” لأتعرض إلى أقذع تعنيف من صاحبي الذي كان مفلساً، كالعادة، وأنا كذلك طبعاً:
– كم لديك من المال؟
– ربع دينار.. وأنت؟
– ثلاثة دراهم.
– هذا يكفي لاحتساء ربع عرق في “سرجون”.
– ك…… أختك، لأنك ضيعت علينا عشرين ديناراً تكفينا لسهرة في أفخم فنادق بغداد. قال صاحبي.
– ثمة من يحتاجها أكثر منا.. الأزمة مستعصية، يا صاحبي.
ذهبنا إلى بار “سرجون” وسهرنا هناك ولكن وليد لم يكف عن “تعنيفي” بأكثر الألفاظ بذاءة.. لأننا لا نملك ثمن سندوتشج.
**** 
عرفت منه أن الشيخ محيي الدين بن عربي عرّف الشعر بأنه: “تكثيف لأحاديث المارة” ومنه “سرقت” عنوان مختاراتي الشعرية الأخيرة “أحاديث المارة”!.
تعلمت من وليد أشياء كثيرة منها أن الإحساس بالعدالة عابر للآيديوجيات والأحزاب والطوائف، وأن العراق بلد رائع لولا حكامه والأحزاب والسياسيين.
وتعلمت أن “الخير والحق والجمال” لا تحتاج إلى من يكتب عنها، بل إن “الشر والباطل والقبح” هي ما ينبغي الكتابة ضدها.
ارقد بسلام، يا صديقي اللدود.. سلام كنت تفتقده مع العالم.
_______
*المصدر: المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *