*محمد العباس
بالمنطلقات الترفيهية والفكرية، يذهب الناس إلى السينما ليشاهدوا لا ليسمعوا، فالسينما فن بصري في المقام الأول وله سطوته على بقية الحواس، وهذه بديهية لم تكن لتغيب عن جون باتريك شانلي، مؤلف ومخرج فيلم (الشك) Doubt عندما نقل قصته من قالبها المسرحي الحاصل على جائزة البوليتزر إلى صيغته السينمائية، فالنص المكتوب أصلاً للمسرح يعتمد في جانب كبير منه على اللغة، والحوار بشكل خاص، الأمر الذي حتّم البحث عن طريقة سردية مغايرة تكون الصورة هي جوهرها، وهكذا جاء أطلس الوجه، والتعبير بتضاريسه تحديداً كقيمة أدائية مهيمنة، إلى جانب لغة الجسد، واللغة كملفوظات، وهذا هو ما يفسر كثرة اللقطات المقرّبة Close Up لبيان مرادات الفيلم من خلال تعبيراتها.
على الرغم من منسوب الحوار فيه، فإن فيلم (الشك) إيحائي، يزرع العلامات ولا يصرح بأي فكرة أو نتيجة على نحو مباشر، لأنه – كنص – يرتد بشكل عمودي إلى أعماق النفس البشرية، وهذا هو ما يستلزم وجود طاقم من الممثلين القادرين على توصيل ثيمة الفيلم ورسائله من خلال تعبيرات الوجه Facial Expression، على اعتبار أن العين هي نافذة الروح، كما أن الوجه هو شاشة التعبير الانفعالي، وهي قدرات أدائية اشتهرت بها ميريل ستريب، التي أدت دور الراهبة (الويشيوس)، وعُرف بها فيليب سيمور هوفمان، الذي قام بدور الأب (فيلين)، كما تتوفر في إيمي أدامز، التي نهضت بدور الراهبة الشابة (جيمس)، وكذلك لفيولا ديفس تاريخها في هذا النوع من الأداءات، التي تصدت لدور السيدة ميللر، حتى جوزيف فوستر، الذي أدى دور الطفل الزنجي دونالد ميللر، كان على درجة من التعبير بإيماءات وجهه.
ولأن الفيلم لا يهدف إلى إبراز البشاعة الشكلية بقدر ما يغوص في أعماق النفس البشرية، لم يكن في وارد المخرج تسهيل مهمة الممثلين من خلال تلطيخ وجوههم بأصباغ المكياج لوصمها بالخير أو الشر، إذ تكاد الوجوه تطل على الشاشة بطبيعتها عدا بعض الرتوش الإجرائية لتأطير الملمح العام للشخصيات ومعالم الفضاءات الزمانية والمكانية، وهو الأمر الذي حفَّز كل واحد منهم على تخليق قناعه العضوي بوساطة عضلات وجهه، تماماً، كما يفترض ويوصي جيرزي جروتوفسكي في مسرحه الفقير، الخالي من الإثقالات التمويهية وحيّل الماكير، أي سعي كل ممثل إلى استظهار قدرته الخاصة بوجهه Facedness وإبراز طاقته في إيصال المعنى بالتعبيرات اللالفظية، للتأثير بها على المشاهد.
التسامح والتزمت
قصة الفيلم في عنوانها العام تقليدية ومكرّرة في أفلام كثيرة، فهي تتعلق بشّبهة الشذوذ في مدرسة تابعة لأبرشية سانت نيكولاس. بموجب حادثة غامضة تقع على هامش الصراع الدائم ما بين تحديث الكنيسة أو الإبقاء على قدامتها بدعوى الأصالة والتقوى والحفاظ على القيم، حيث تدور تلك الأحداث على خلفية اغتيال كنيدي عام 1963م، وما أعقب ذلك من هزة عنيفة في يقينيات ومعتقدات المجتمع الأميركي، الأمر الذي دفع الأب فيلين لتكريس خطبته لفكرة الشك (ما الذي تفعلونه عندما لا تكونون متيقنين، هذا هو موضوع عظتي اليوم. العام الماضي عندما اغتيل الرئيس كنيدي، من منا لم يشعر بارتباك عميق للغاية؟ أو بالأسى؟ أي طريق أسلك؟ ماذا أفعل الآن؟ ماذا أقول لأولادي؟ ماذا أقول لنفسي؟).
هكذا قدم الفيلم الشك كثيمة مركزية، واتكأ عليها كصاعق لتفجير العلاقة بين الراهبة (الويشيوس) والأب (فيلين)، وتوليد موجة من الشكوك عندها حول شخصيته ومقاصده ومنازعه الذاتية والرسالية، خصوصاً بعد أن قال في خطبته بأن (بعض الحاضرين اليوم في الكنيسة يعرفون تماماً أزمة الإيمان التي أصفها، وأريد أن أقول لكم قد يكون الشك رابطاً قوياً ومؤازراً بقدر ما هو اليقين كذلك. عندما تكونون تائهين فأنتم لستم بمفردكم)، حيث أثارت تلك العبارات هواجسها نحو نواياه المبيّتة وأفكاره المتحرّرة، لدرجة أنها ناقشت الراهبات في مقاصد الأب وتداعيات مثل هذه الأفكار.
الصراع ما بين الأب المتسامح المرن المتحرّر الديموقراطي العصري المرح وبين الراهبة المستبدة الآمرة الرجعية الصارمة المتعنتة المتجهّمة، يحضر بقوة وصراحة، وعبر إشارات ضمنية أحياناً بطريقة تناظرية. من خلال استعراض مائدة الأب العامرة بالضحكات والود والمنادمة، مقابل مشهد مائدة الراهبة المملة الباردة حيث يعم الصمت والارتباك الراهبات، وقد تصعّد الصراع بينهما ليتجاوز مستوى وجهات النظر الروحية والمعرفية في إدارة المدرسة إلى مستوى المجابهة الشخصية، وذلك من جانب الراهبة بدعوى الحفاظ على الأخلاق وحفظ النظام، فهي على درجة من الصرامة بحيث صارت تراقب أظافره الطويلة، وقلم الحبر الجاف الذي يستخدمه عوضاً عن قلم الحبر، ودعوته لاستدخال أغنية علمانية في حفل المدرسة، وتدخينه لسيجارة، وحتى عدد قطع السكر في كوب الشاي الذي يشربه، فكل تلك الشواهد بالنسبة لها أدلة تتراكم وتتعاضد لتحيل إلى شخصية فاسدة في نسيجها الداخلي وتهدد النظام الكنسي.
وبمقتضى قناعتها تلك جعلت من المدرسة ساحة معركة لطرد الأب منها، حتى أن الفيلم تحول بدوره إلى مشاهد لجولات من التجابه الدائم، حيث حاولت استقطاب الراهبة الشابة (جايمس) إلى صفّها. بتلقينها دروساً في الكشف عن الكذب، وتفعيل مجسات الشك عندها إزاء الأب. لدرجة أنها لاحظت اهتمام الأب بطفل أسمر البشرة اسمه دونالد ميللر. لتثبت لها أنها ليست ساذجة، وعليه، نسجت الراهبة (الويشيوس) حكاية محكمة لاتهامه بالتحرش، وقد استدعت والدته لتضغط بها في هذا الاتجاه.
وهنا صارت الراهبة الشابة (جايمس) بين عالمين متضادين: عالم (الويشيوس) التي تحاول هدم سمعة الأب، وبينه بروحه الأبوية المحبّة المبدّدة للشكوك. مع ميل واضح لتبرئة الأب وإنهاء أزمة عدم الثقة بينهما، حيث كانت (الويشيوس) تعتبرها طيبة أكثر ما ينبغي. فيما كان الأب يرى أن اللطف هو فلسفتها، ويطالبها بألاّ تسمح لأي أحد بقتل الإنسان في داخلها، ولكن (الويشيوس) تعاند وتلجأ إلى الكذب لتتمكن في نهاية الأمر من إخراجه. إلا أنها تفقد إيمانها وتسقط في شك مضاعف، حيث ينتهي الفيلم بمشهد بكائها وهي تتمتم «عندما نطارد الخطيئة قد نبتعد خطوات عن طريق الرب. أخت جايمس.. تساورني شكوك، تساورني تلك الشكوك».
ترميز
كل تلك المشاهد الانفعالية كانت على درجة من الوضوح من خلال اللغة المستخدمة، وهو الأمر الذي فرض على معظم المراجعات والمقاربات النقدية التركيز على هذه الخطوط الصريحة لحبكة الفيلم، أي ترميز الراهبة كممثل للقدامة وإسباغ صفة الحداثة على الأب، وهذه معادلة قوية في الفيلم، إلا أن طبقات الوجوه التي لعبت دوراً كبيراً في مهمة التبليغ الجمالي للفيلم لم تُقارب، ولم تُخضِع المشاهد لقراءة حقل المشاعر الخصب Reading Emotions، إذ لم يتم التعبير عن الصراع الفكري باللغة فقط، بل بتحريك عضلات الوجوه Facial Muscles خارج إطارها الاعتيادي، حيث اكتست وجوه كل الشخصيات طوال الفيلم بالشك، وكأن الشك، كما قال الأب (فيلين) هو الرابط بين الناس، كما اليقين تماماً.
ميريل ستريب (الويشيوس) مثلاً كانت في مجمل مشاهدها سواء في مواجهتها للأب (فيلين) أو في محاولتها لاجتذاب الراهبة الشابة (جايمس) أو لحظة مقابلتها للسيدة ميللر للتأثير عليها، كانت ترسم على وجهها علامات التقوى لتضاعف من قوتها، وترفع من منسوب حضورها الروحي عبر وجهها الطافح بتعبيرات امتلاكها للسلطة، أو ما يُعرف بأثر الهالة The Halo Effect، إذ لم تكن تعتمد النظرة العابرة Glance التي تعني تمرير منصة الكلام إلى الآخر، بل اعتمدت في أغلب المشاهد على التحديق Gaze بما تحمله هذه النظرة من سلطة ورغبة في السيطرة، ومن فيض يوحي بالحب، حيث استطاعت أن ترغم (جايمس) على التقاط الطعام الممضوغ من السفرة وأكله مرة أخرى من دون أي كلمة، إنما بنظرة موبّخة. إلا أن وجهها في المشهد الأخير وهي تبكي قبالة (جايمس) وهي تتمتم (تساورني شكوك.. تساورني شكوك) كان يوحي بذات مهزومة، آفلة، شائخة، حيث برزت التجاعيد بشكل فاضح، وتهاوت مزاعمها بأنها قارئة عقول Minds Reader حيث تبين أن شكوكها لا تقود إلا إلى الندم أو الجنون.
كذلك استطاع فيليب سيمور هوفمان أن يلعب بوجهه على عدة مستويات، والتحكم ببراعة في جهاز عصبه، ليعبر عن حالات الغضب والحزن والفرح والخوف والارتباك والطمأنينة، وليتوافق بوجهه مع طبيعة الخطب الرنّانة التي كان يلقيها، ففي أول خطبة ظهر بوجه متألم وبشكل تصاعدي التمعت دمعته، تماماً كما في خطبة الإشاعة، لدرجة أنه بدّد على المشاهد أي إمكانية للشك فيه. في الوقت الذي خصّب الفيلم بعلامات الشك، فعندما كان يتلقى مع الراهبة (جايمس) التي أدت داخل الفيلم دور المسرود له بالمعنى النقدي، لتمرير الفكرة إلى المشاهد باعتباره المروي له، كان يعتمد آلية تطامنية تأثيرية معروفة في علم النفس بقاعدة التواد في ظل القلق Affiliation Under Anxiety، حيث استطاع كسبها إلى جانبه، ليس بمنطقية خطابه فقط، بل بنظراته الأبوية، وبوجهه المقنّع بوابل من علامات الحُبّ، وبالتماعة عينه الدامعة التي ظهرت بعد عرض طويل من الابتسامات والتقطيبات حد المسكنّة، فهو يعتمد في تأثيره على التواصل بالنظر Eye Contact، ولذلك أصرت الراهبة (الويشيوس) على فتح النافذة ليسقط الضوء على وجهه فتتمكن من قراءة تضاريسه، ليرد بإغلاقها ليحرك عضلات وجهه خارج دائرة الانكشاف.
حتى فيولا دايفس (السيدة ميللر) بعبورها الخاطف في الفيلم استطاعت أداء دورها المركب ببراعة مذهلة من خلال محاولتها لإقناع المشاهد بقدرتها على تلبّس الدور والشخصية، وكذلك عبر تظاهرها بالصدق والتجاهل قبالة الراهبة (الويشيوس)، وهذا هو جوهر التمثيل، فهو يعادل الصدق المزيف، بتعبير جورج بيرنز، إذ لا يمكن نسيان وجهها المكسو بالخوف والغضب والألم والشفقة، والمخاط السائل من أنفها، والدموع النافرة من عينيها، وهي تحاول عبر ذلك الوجه المدرّب على الأداء التقني المحكم، توصيل الرسالة عبر نظامين: موقف داخلي Internal Attitude يختزن قناعاتها وخوفها وحسرتها، وموقف خارجي External Attitude لتضليل المشاهد والراهبة، حيث تجلى ذلك الصراع بلقطات خاطفة على وجهها.
كل لقطة في فيلم (الشك) تؤكد أن الممثلين من أصحاب ما يُعرف بالسيادة الوجهية Facial Dominance، وأنهم جسدوا الشخصيات الموكلة إليهم على قاعدة التلبُّس Characterization as Possession، حيث وضعوا أنفسهم داخل الشخصيات، وسمحوا بظهور تلك الشخصيات في دواخلهم، أما أداء أدوارهم فقد بدا كواقعة تواصل وتماس Contact Event، وقد تقنع كل واحد منهم بطبقات من التمويهات المستمدة من جذور التعبير الانفعالي. تجميد الحركة، صمت، تقطيبات سريعة التلاشي، نظرات خاطفة بعينين نصف مغمضتين، تنكيس الرأس، نظرات الظفر، اتساع بؤبؤ العين. دائماً وقد تعزز هذا المعنى والأداء بسقوط الإضاءة دائماً على الوجوه. إما من النافذة أو من الأنوار، بمعنى أنهم أتقنوا كتم الانفعالات وتبديد كم هائل من التمويهات بوجوههم الخادعة الخالية من علامات التعبير المباشر، تماماً كوجوه لاعبي البوكر Poker Faced ولكن بشكل تمويهي مقلوب، أي بتحويل وجوههم إلى حقول مزدحمة بالعلامات المضلّلة.
________
*الاتحاد