محمود شقير.. خبز الآخرين


*حوار: أوس داوود يعقوب


محمود شقير كاتب وقاص وروائي فلسطيني ذو نتاج غزير في هذا المجال، وقد تميز فلسطينيًا وعربيًا بالكتابة بأسلوب السهل الممتنع، ذاهبًا الى اللغة من دون محسّنات لفظية أو استفاضات أو زوائد، وكذلك باشتغاله المتفاني على أعماله لجهة الفنية العالية. كل هذا وأكثر أسهم في تكوين سمات خاصّة لكتاباته السردية على تنوّعها. وفي كل كتاباته الصحفية والأدبية كانت القدس دائمًا حاضرة بقوة، فمنذ عودته إلى الوطن عام 1993 -بعد ثمانية عشر عاماً قضاها بالمنفى جراء إبعاد سلطات الاحتلال الاسرائيلي له- كتب كتابًا عن القدس هو “ظل آخر للمدينة” وأتبعه بثلاثة كتب أخرى عن المدينة المُقدسة، هي “القدس وحدها هناك”، “قالت لنا القدس″، و”مدينة الخسارات والرغبة”. وتكريما لمسيرته الحافلة بالعطاء الأدبي والفكري، منحته مؤسسة محمود درويش “جائزة محمود درويش للحرية والإبداع″ في العام 2011، فكان أول فلسطيني يحظى بها. وفي العام 1991 منحته رابطة الكتاب الأردنيين “جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة”. ومؤخرًا منحته “لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية” جائزة “القدس للثقافة والإبداع″، تقديرًا لجهوده المثابرة في الكتابة من القدس عن القدس وللقدس. “الجديد” التقته وكان لها معه هذا الحوار..
_________

بداية، ماهي نقطة التحوّل التي أسست فعلا لبدء مسيرتك الأدبية؟
شقير: ربما كان ظهور مجلة “الأفق الجديد” في القدس نقطة التحول التي أسست لهذه المسيرة. كان ذلك في العام 1961 حين ابتدأت المجلة في الصدور كل نصف شهر، ثم تحولت إلى مجلة شهرية. كنت قبل ظهورها أحاول نشر مقالات وقصص في الصحف اليومية الصادرة في القدس. حاولت كذلك إرسال بعض القصص إلى مجلات في الخارج، ولم أحظ بفرصة واحدة لنشر قصة لي أو مقالة في أيّ مجلة من هذه المجلات.
وقد تكرر الأمر نفسه مع مجلة “الأفق الجديد”. ذهبت إلى رئيس تحريرها المرحوم الشاعر أمين شنار، قابلته في مكتبه الكائن في مقر صحيفة “المنار” بشارع الزهراء في القدس. قدّمت إليه أربع قصص، وبعد أن قام بقراءة هذه القصص لم يوافق على نشرها، لكنه أبدى ملاحظة ربما كانت هي حبل النجاة للكاتب المنتظر. قال: لديك قدرة على كتابة قصة ناجحة. بعد أشهر من ذلك اللقاء عدت إليه بقصة مستوحاة من واقعة التشريد التي عانينا منها أنا وأسرتي وأهل قريتي حين اعتدت العصابات الصهيونية في العام 1948 على جبل المكبر. نُشرت القصة في أحد أعداد المجلة في العام 1962، وبعد ذلك توالى نشر قصصي في “الأفق” وفي غيرها من المجلات والصحف الفلسطينية والعربية.
أكثر من خمسين عاما من الكتابة، هل تحدثنا بإيجاز عن أهم وأبرز الإنجازات خلال مسيرتك الأدبية؟
شقير: كان كتابي الأول “خبز الآخرين” هو أبرز إنجاز، على اعتبار أنه الكتاب الذي قدّمني إلى القراء، وكان هو فاتحة ما يزيد عن خمسة وأربعين كتابًا أنجزتها حتى الآن للكبار وللأطفال. لعل “طقوس للمرأة الشقية” وهي قصص قصيرة جدًّا من أبرز إنجازاتي كذلك. ولا أنسى مجموعتي القصصية الساخرة “صورة شاكيرا” وروايتي “فرس العائلة” ومسلسل “عبدالرحمن الكواكبي” الذي أخرجه الفنان صلاح أبو هنود، وقام بدور البطولة فيه الفنان نبيل المشيني وآخرون.
ومع أنني كتبت عددًا غير قليل من القصص والروايات للأطفال وللفتيات والفتيان فما زالت روايتي “أنا وجمانة” تشكل واحدة من أبرز إنجازاتي، كما أدّعي للفتيات والفتيان.
ما الذي تختزنه الذاكرة من ذكريات عن كتابك الأول “خبز الآخرين” الذي قدمك ككاتب قصة قصيرة في الوطن المحتل وفي الشتات؟
شقير: مما تختزنه الذاكرة حول هذا الكتاب أن قصصه جمعت وأعدت للنشر حينما كنت معتقلاً في السجون الإسرائيلية جراء نشاطي السياسي ضد الاحتلال. قامت “دار صلاح الدين” في القدس بجمع الغالبية العظمى من القصص التي كنت نشرتها في مجلة “الأفق الجديد” واقترحت على القائد السياسي الشاعر توفيق زياد أن يكتب مقدمة للكتاب الذي صدر في العام 1975 متأخّرًا تسع سنوات عن موعد صدوره الأول لأسباب عديدة.
وقد طُبع هذا الكتاب مرات عدة في الأرض المحتلة وتم تداوله على نطاق واسع، وبخاصة لدى طلبة الجامعات الذين ما زالوا كلما التقيت بعضًا منهم يتحدثون معي عن التأثير الإيجابي الذي تركه في نفوسهم هذا الكتاب.
وحين تم إبعادي من السجن إلى لبنان، استقبلت في بيروت بصفة كوني كاتبًا وليس رجل سياسة. كانت بعض قصصي وبخاصة قصة “خبز الآخرين” قد نشرت مرارًا في صحف ومجلات عربية ولاقت ترحيبًا واسعًا آنذاك، ولذلك تم الاحتفاء بي على هذا الأساس.
أبعدت خارج فلسطين من العام 1975 وحتى العام 1993، فكيف أثّر الإبعاد في تجربتك الأدبية؟
شقير: كان له تأثير متعدّد الأبعاد. من جهة، تمكّنت من إثراء ثقافتي بما كان ينقصني من كتب ظهرت في الوطن العربي وفي العالم، ولم تصل إلى الأرض المحتلة بسبب الحصار. وأتيحت لي فرص للاطلاع على ما وصل إليه فنّ القصة على الصعيد العربي من تجديد اقتضته متطلبات العصر واختلاف الظروف والأحوال. ومن جهة أخرى أتاح لي النظرُ إلى الوطن من بعيد عدم الاكتفاء بمشاعر الحنين للتعبير عن حبّي للوطن، وإنما أيضًا القدرة على رؤية الأخطاء والسلبيات إلى جانب التسليم بما هو إيجابي في مسيرة النضال الوطني ضد الاحتلال. وقد انعكس هذا الأمر على كتاباتي القصصية حيث لم أعد أنظر إلى الفلسطيني باعتباره كائنًا مقاومًا عصيًّا على النقد، وإنما بوصفه كائنًا بشريًّا له مظاهر ضعفه مثلما له مظاهر قوته.
كذلك، أسهم المنفى في التدخل في خياراتي الفنية والإبداعية. إذ لم أعد وأنا في المنفى قادرًا على استحضار المكان الأول الذي تشكلت من خلاله قصصي الأولى، بما اتسمت به من سرد مطوّل نسبيًّا، فاستعضت عن ذلك باللجوء إلى كتابة القصة القصيرة جدًّا التي يمكنها الاستغناء عن المكان المفصّل محدد الأبعاد، وذلك بالاكتفاء بمكان جزئي أو بجزئية من مكان تكفي لأن تكون الحيّز الذي يحتضن مادة السرد المتقشف الذي لا يزيد عن أسطر معدودات.
إلى أي مدى أسهم المراس الطويل في كتابة القصة القصيرة جدًّا في تكوين سمات خاصّة لكتاباتك السردية على تنوّعها؟
شقير: ربما أسهم هذا المراس الطويل في تجنب الاسترسال غير الضروري في السرد، وفي الابتعاد ما أمكن عن المحسنات البديعية التي لا لزوم لها، وفي الميل إلى استخدام اللغة المتخففة من النعوت قدر المستطاع، والميل كذلك إلى الجملة القصيرة المكثفة. وبالطبع، فإن للسرد المطوّل سواء أكان ذلك في القصة القصيرة أم في الرواية شروطًا أخرى تتجاوز حدود القصة القصيرة جدًّا وأساليب كتابتها.
كيف ترى مستقبل القصة القصيرة جدًا في وطننا العربي؟
شقير: ما زال هذا المستقبل ملتبسًا وغامضًا. ذلك أن هذا اللون من الكتابة الإبداعية يغري كل راغب في الكتابة أن يجرّب حظه فيه حتى وهو غير مؤهل لذلك. ثمة وفرة من الكتابات التي تنتسب عن حق وعن غير حق إلى فن القصة القصيرة جدًّا على صفحات التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع الإلكترونية، حيث تختلط القصة القصيرة جدًّا مع الخاطرة والمقالة الموجزة والأمثولة والأهجية السياسية وقصيدة النثر. وفي ظني أن التماهي مع قصيدة النثر لا يعيب القصة القصيرة جدًّا، إذ لطالما اعتمدت قصيدة النثر على السرد القصصي المكثف، ولا ضير من اعتماد القصة القصيرة جدًّا على بعض سمات قصيدة النثر على ألا تغرق في لغة الشعر، فتصبح غير محددة الملامح، أو تصبح أقرب إلى الشعر منها إلى القصة القصيرة جدًّا.
يضاف إلى ذلك إهمال النقاد للقصة القصيرة عمومًا وليس للقصة القصيرة جدًّا وحسب. هذا الإهمال وضعف الاهتمام والعزوف عن وضع الأسس والقواعد الخاصة بكتابة القصة القصيرة جدًّا، يجعل مستقبل هذا اللون من الكتابة الإبداعية عرضة للدخول في متاهة أو للمراوحة في المكان، رغم أن الإيقاع السريع لعصرنا يشجع على التعاطي مع الكتابة المتقشفة التي بالإمكان قراءتها بسرعة قياسية.
أما زلت تتهيب الدخول إلى عالم الكتابة الروائية -كما تقول- بسبب قناعتك أن الرواية فن يتطلب الكثير من الاستعدادات الثقافية والفنية، علاوة على التجربة الواسعة في الحياة؟ وكيف هي علاقتك مع الأجناس الأدبية الأخرى؟
شقير: أعتقد أنني استطعت كسر هذا التهيب بعد أن أنجزت روايتين للكبار هما “فرس العائلة” و”مديح لنساء العائلة” اللتين تطرقتا لسيرة عشيرة بدوية فلسطينية منذ بدايات القرن العشرين إلى ما قبل نهاية هذا القرن بعشرين سنة، أي إلى فترة حصار بيروت في العام 1982، ولعل في سيرة هذه العشيرة البدوية إشارة مؤكدة إلى سيرة الشعب الفلسطيني الذي عانى وما زال يعاني من الغزوة الصهيونية التي شردت الشعب واستولت على الأرض.
لكن التهيب ما زال يساورني كلما هممت بكتابة نص روائي للكبار. أقول للكبار لأنني أنجزت عددًا من الروايات للفتيات والفتيان. الآن، أقوم بتدوين الملاحظات للشروع باستكمال ما بدأت به في “فرس العائلة” وما تابعته في “مديح لنساء العائلة” لعلني أغطي الفترة الزمنية من سيرة العشيرة التي بعثرتها الظروف وتقلبات الحياة وتغيرات الزمن التي تمتد من ثمانينات القرن العشرين إلى أيامنا هذه على وجه التقريب. أدوّن الملاحظات وأتأمل بعض شخوص الرواية القادمة، وأواصل التهيّب إلى أن تحين لحظة الشروع في الكتابة، وبعد ذلك، ينكسر التهيب وتتقدم الكتابة نحو الأفق المأمول.
وأما بخصوص علاقتي مع الأجناس الأدبية الأخرى فقد جرّبت كتابة النص المسرحي، والسيناريو والحوار للمسلسل التلفزيوني، والقصة للأطفال، والرواية للفتيات والفتيان، والمقالة الأدبية والسياسية، ولم أكتب الشعر.
لديك اهتمام خاص بأدب الأطفال، وفي بعض قصصك محاولة لاستعادة مأثورات (كليلة ودمنة) عبر رؤية معاصرة، ماذا تقول عن تجربتك الخاصة في أدب الأطفال؟ وما هي الآفاق التي يمكن أن تنفتح أمام هذا الأدب في ظل استعادة مأثورات أخرى؟
شقير: هذه التجربة ابتدأت أواسط سبعينات القرن العشرين. وقد تضافرت عوامل عدة لتحفيزي على الكتابة للأطفال. قبل ذلك كنت تجد في قصصي المكتوبة للكبار اهتمامًا بالطفولة من خلال إسناد البطولة في بعض قصصي لأطفال أو فتيان. ووجدت في المجلات المكرسة للأطفال حيزًا لنشر قصصي وبخاصة مجلة أسامة السورية أثناء رئاسة زكريا تامر لتحريرها ومن ثمة رئاسة ناديا خوست للتحرير.
وكنت معنيًّا وأنا أكتب أولى قصصي المكرسة للأطفال أن أستوحي وقائع النضال اليومي في فلسطين ضد الاحتلال، ورصد الجرائم التي كانت ترتكبها قوات العدو ضد أطفال فلسطين، وأن أجعل حب الوطن والأرض على رأس القيم الوطنية والإنسانية التي تضمنتها قصصي. وإلى جانب القصص التي يُسند دور البطولة فيها إلى الحيوانات كنت معنيًّا بكتابة قصص للأطفال أبطالها بشر، وبخاصة من الأطفال.
ومع مرور الزمن، تنوعت تجربتي في الكتابة للأطفال وللفتيات والفتيان. استوحيت التراث في بعض قصصي كما ورد في سؤالك، وأفسحت في المجال لعنصر الخيال باعتباره من أهم عناصر القصص المكرّسة للأطفال.
أي متعة تجدها في هذا النوع من الأدب؟ وكيف يمكن الوصول إلى الطفل؟
شقير: تتبدّى المتعة حين أنجح في كتابة نص قادر على التعبير عن اهتمامات الطفل، قادر في الوقت نفسه على الاستجابة لرغباته، وعلى إثراء خياله. وأما الوصول إلى الطفل عبر الكتابة فإنه يتمّ عبر المراس الطويل في هذه الكتابة، وعبر اللقاءات مع الأطفال في المدارس وفي الأندية والمراكز الثقافية والمؤسسات التي تعنى بالطفولة، لمناقشة القصص معهم والتعرف إلى مدى استجابتهم لها، ومدى تعبيرها عنهم.
كيف تقيّم حال أدب الطفل في فلسطين اليوم؟
شقير: ثمة حضور لافت لأدب الطفل خلال السنوات الأربعين الماضية في فلسطين، من خلال مؤسسات معنية بأدب الطفل، مثل “تامر”، “أوغاريت”، “الزيزفونة”، “البحيرة” وغيرها، غير أن هذا الأدب بحاجة إلى مزيد من التطوير، وذلك لأن نزعة التوجيه والإرشاد والمباشرة ما زالت تتبدى في بعض نصوص هذا الأدب.
وما زلنا بحاجة إلى إطلاق العنان للخيال من دون تحفظات، وإلى التحرر من بعض التعاليم التربوية التي ترى في الطفل كائنًا مطيعًا نلقّنه ما نرغب فيه ونرضاه، من دون الانتباه إلى رغباته ونزعاته وميوله، في حين أن المطلوب تمكين الطفل من التعبير عن نفسه بشكل حر، وتمكينه من إطلاق قدراته الذهنية إلى أبعد الحدود.
تقول: “الوطن الحلم أجمل من الوطن الواقع″ أيّ وطن يحلم به محمود شقير؟
شقير: الوطن الواقع هو الذي نعيش همومه كل يوم ونصطلي معه في أتون المعاناة، ونظل متشبثين به رغم عسف المحتلين وطغيانهم، لأنه لا وطن لنا سواه. أما الوطن الذي أحلم به فهو فلسطين المبرّأة من القيود، المتحررة من سطوة الغزو ومن همجية الاحتلال.
أحلم أيضًا بفلسطين لا مكان فيها للتخلف الاجتماعي والاقتصادي، وللتعصب والتزمت والإقصاء. فيها مجتمع مدنيّ قادر على تمثّل كل جديد في الحياة، وعلى تحقيق المساواة الفعلية بين الرجل والمرأة. وفيها نظام سياسي ديمقراطي بعيد من احتكار السلطة على نحو شمولي، قادر على تلبية مطالب الناس في العدل الاجتماعي والمساواة. فيها اعتناء أكيد بالأطفال وتلبية لكل الشروط التي تجعلهم يعيشون في أمن ورفاهية وسلام.
أيّ أثر تركه حصولك على “جائزة محمود درويش للحرية والإبداع″ في العام 2011، لا سيما وأنك أول فلسطيني حظي بها. وما معنى أن يكون هناك جائزة فلسطينية عالمية باسم محمود درويش؟
شقير: تشرّفت بحصولي على هذه الجائزة الرفيعة، واعتبرتها أحسن تكريم لي ولإنجازاتي في حقل الكتابة الإبداعية. ويكفيني فخرًا أن اسمي ارتبط باسم محمود درويش من خلال هذه الجائزة، وهي في الوقت نفسه تعبير عن سنوات العمل الثقافي المشترك التي خضناها معًا: محمود درويش وأنا. فقد عملنا معًا لسنوات في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين حين كان درويش رئيسًا للاتحاد وكنت عضوًا في الأمانة العامة للاتحاد. وعملنا معًا في “لجنة جوائز فلسطين” لخمس سنوات، وكذلك في “لجنة مسارات” التي أشرفت على المهرجان الثقافي الفلسطيني في بلجيكا في العام 2008. وكنت أنشر قصصًا ونصوصًا في مجلة “الكرمل” التي كانت برئاسة محمود درويش.
ولعل وجود جائزة عالمية باسم محمود درويش أن يجد تفسيره في حضور اسم درويش، بوصفه شاعرًا كونيًّا حمل فلسطين من خلال شعره الإنساني الفذ إلى العالم.

لكل مبدع طقوس خاصة بالكتابة، ما هي الطقوس الخاصة التي تمارسها عند الكتابة؟
شقير: قبل اعتمادي على الحاسوب، كانت لي طقوس تتمحور حول الدفاتر، والورق المسطر، وأقلام الحبر الناشف، وكذلك أقلام الرصاص، والكربون. على الدفاتر كنت أكتب مسودات قصصي، وعلى الورق كنت أقوم بعملية تبييض القصص، والكربون أضعه تحت الورق لكي أحتفظ بنسخة مبيضة من كل قصة أكتبها وأقوم بإرسالها إلى مجلة أو صحيفة. وحين شرعت في كتابة المسلسلات للتلفزيون نصحني أحد الأصدقاء باستخدام قلم الرصاص والممحاة لكتابة السيناريو والحوار من دون تبييض. بمعنى أنني أمحو الجملة التي لا تروقني وأواصل الكتابة على الورقة فلا أمزقها ولا أستبدل بها ورقة أخرى.
وكنت أكتب في الصباح حينًا وفي المساء حينًا آخر.بعد اعتمادي على الحاسوب، تغيرت الأمور بشكل جذري. أكتب مباشرة على شاشة الحاسوب، وأجري ما أريد من تغييرات وتعديلات على النص المكتوب، وأوفّر وقتًا كثيرًا، وأكتب في أيّ وقت متاح.
هل نالت تجربتك في الكتابة حظها من المتابعة النقدية؟ وإلى أيّ حد أسهم النقد في تطوير مشروعك السردي؟
شقير: أعتقد ذلك، فقد كُتبت عن قصصي ورواياتي المكرسة للكبار وللفتيات والفتيان، وعن مجموعاتي القصصية دراسات ومقالات كثيرة، من نقاد متخصصين وغير متخصصين ومن طلبة دراسات عليا. وقد كانت ذروة هذه الدراسات الكتاب الذي ألفه الاستاذ الدكتور محمد عبيدالله الموسوم بـ”تحولات القصة القصيرة في تجربة محمود شقير” الصادر في العام 2014، وفيه تحليل متبصّر لمجموعاتي القصصية، واستخلاصات عميقة حول تجربتي في كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا.
ومما لا شك فيه أن النقد أسهم إسهامًا أكيدًا في تطوير مشروعي السردي، ما يجعلني أشعر بامتنان تجاه كل من قال كلمة حق في حق نتاجاتي القصصية، سواء أكان ذلك لجهة السلب أم لجهة الإيجاب. فمن أشاد بجوانب من كتابتي حفّزني على مزيد من الإجادة في ما كتبت لاحقًا، ومن نبّهني إلى نواقص وسلبيات في كتابتي أرشدني إلى مواقع الخلل في هذه الكتابة، ما أسهم في تجنب مثل هذا الخلل في كتابات لاحقة.
إذا عدنا معًا إلى مرحلة البدايات وسألنا عن الأدباء والكتاب الذين تأثرت بهم والذين كانوا مصدر الإلهام لك فماذا تقول؟ وأيّهم أقرب إليك؟
شقير: تأثرت بقصص يوسف إدريس، وأعجبت بأسلوبه النابض بالحيوية وعمق التصوير في قصصه القصيرة، حيث يذهب إلى أعماق الشخصية القصصية ويعطيها الحق في التصرف بما تمليه عليها نوازعها النفسية، وكذلك بروايات نجيب محفوظ وإيلائه الموضوعات الاجتماعية اهتمامًا خاصًّا. وتأثرت بقصص أنطوان تشيخوف وبخاصة حين يرسم مشهدًا قصصيًّا محكمًا وقادرًا على التغلغل في وجدان المتلقي. كما تأثرت بأسلوب أرنست هيمنغواي الذي ينحو نحو السهل الممتنع، سواء أكان ذلك في قصصه أم في رواياته. يظل يوسف إدريس هو الأقرب إليّ وإلى تجربتي في كتابة القصة القصيرة.
تأثير القدس، أو وجودك في المدينة، واضح في الكثير من قصصك، هل توثق أدبيا لصراع المدينة، وتخصها باهتمامك أكثر من سواها؟ وهل تعتبر وجودك في المدينة ميزة على الصعيد الإبداعي؟ أم أنه أفقدك ميزات ما؟
شقير: بالعكس، لم يفقدني وجودي في المدينة أيّ ميزات. ويمكنني القول إن للقدس فضلاً كبيرًا عليّ، فهي المدينة الأولى التي تفتّحت عيناي عليها منذ الطفولة. وهي التي ألهمتني الكثير من اهتماماتي واختياراتي في السياسة وفي الأدب سواء بسواء.
وحين اتجهت إلى كتابة القصة القصيرة كانت القدس هي الحاضنة التي احتضنت العديد من قصصي. ولم يكن ذلك أمرًا مفتعلاً أو انصياعًا لواجب أو تقليعة ما، بل هو التفاعل الحيّ بين علاقتي بالمدينة ومادة قصصي التي استوحيتها من أجواء المدينة وما جدّ عليها من ظروف وتقلبات. وقد تعززت هذه العلاقة بعد أن أصبحت قريتي حيًّا من أحياء المدينة، حيث لا أنقطع عنها لا في الليل ولا في النهار.
وبالطبع، لم تقتصر كتابتي عن المدينة على القصص القصيرة، فقد وردت القدس في كثير من كتبي المنشورة، ومن أهم هذه الكتب “ظل آخر للمدينة” الذي أعتبره سيرة للمدينة.
ويكفيني فخرًا أن “لجنة القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية” منحتني مؤخرًا جائزة “القدس للثقافة والإبداع″ تقديرًا لجهودي المثابرة في الكتابة من القدس عن القدس وللقدس.
رغم ما تعانيه القدس من حصار، ومن محاولات لتبديد طابعها العربيّ الإسلاميّ ببعده المسيحيّ الفلسطيني، تظلّ معنيّة بالمحافظة على مشهدها الأصيل، وتظلّ في الوقت نفسه، معنيّة بأن تكون مدينة التعدّدية والانفتاح. فكيف يتبدى ذلك من خلال تجربتكم الشخصية؟
شقير: أعتقد أن أهم درس تعلمته من القدس هو احترام التعددية وتعايش الديانات والأفكار والمذاهب والتجارب السياسية والحزبية على نحو حضاري مرموق. ولم أكن بعيدًا عن هذه الحالة الفريدة من التعددية والتعايش. شهدت وأنا فتى وما زلت أشهد تعايش المسيحيين الفلسطينيين المقدسيين مع المسلمين الفلسطينيين المقدسيين في تآلف وانسجام. وفي ما يتعلق بي شخصيًّا، فقد كنت أزور المسجد الأقصى وأتعلم منه كيف تتماهى الاستنارة الفكرية مع تعاليم الدين، وكنت في الوقت نفسه أزور كنيسة القيامة وأتعلم منها كيف يكون التسامح نابعًا من جوهر العقيدة الدينية.
كانت القدس وما زالت مهدًا للتعددية رغم محاولات المحتلين الإسرائيليين هذه الأيام لتهويدها ولفرض وجهة نظر واحدة متعصبة إقصائية عنصرية عليها، بما يخالف طبيعة المدينة ولا يتواءم مع تراثها وثقافتها وتاريخها.
رغم كثرة ما كتب عن فلسطين، ألا تتفق معي أن ثمة الكثير الذي لم يُكتب بعد عن جوانب عدّة في حياة الشعب الفلسطيني ومعاناته وآلامه وآماله وفي بعض تجليات التجربة الفلسطينية؟
شقير: صحيح. ثمّة الكثير الذي لم يكتب بعد بسبب عمق المأساة الفلسطينية التي ابتدأت قبل مئة عام وما زالت فصولها المؤلمة تتوالى حتى الآن. صحيح أن ثمة نتاجات أدبية فلسطينية متنوعة في الوطن وفي الشتات، من بينها مشروعات روائية تغطّي مئات السنوات من تاريخ الشعب الفلسطيني، إلا أن الحاجة إلى مزيد من الكتابة عن القضية، وعما عاناه الفلسطينيون من عسف وتعذيب وتشريد واعتقال وسجن وقتل وحرمان من الحياة الطبيعية على أيدي الغزاة الصهاينة، تستحق بذل الكثير من الجهود التي تليق بما قدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات.
وأعتقد أن مثل هذا الأمر يتحقق الآن، وسوف يتحقق بمزيد من العمق والوضوح في السنوات القليلة القادمة، بسبب ما تتعرض له القضية الفلسطينية من محاولات حثيثة لتبديدها عبر كسب الوقت لتهويد القدس، ولمصادرة ما تبقّى من أرض لم تجر مصادرتها وبناء المستوطنات عليها حتى الآن.

برأيك هل استطاعت النتاجات القصصية والروائية وحتى الشعرية، من تقديم الرواية الفلسطينية الحقيقية عن النكبة للعالم، وتسليط الضوء على ما تعرض له الفلسطيني على أيدي الصهاينة الذين احتلوا الأرض وعاثوا فيها فسادًا؟
شقير: إلى حدّ ما نعم، ولا أريد أن أدخل في طقس جلد الذات، كما لا أريد في الوقت نفسه إعلان الرضا عن النفس والقول إن كل شيء في هذا الصدد على ما يرام. فالمأساة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، المتمثلة في أبشع عملية غزو استعماري متستّر بأردية الدين تتطلب ليس فقط تصوير المعاناة والألم ومضاعفات التشريد والعيش في خيام، وإنما كذلك فضح طبيعة الحركة الصهيونية وتفنيد حججها الكاذبة التي تحاول تقديم نفسها للعالم على اعتبار أنها حركة تحرر قومي للشعب اليهودي، وإعادة موضعتها في مكانها الصحيح على اعتبار أنها واحدة من إفرازات النظام الرأسمالي العالمي، وهي غزوة استعمارية استهدفت وتستهدف تشريد أهل البلاد الأصليين، وإحلال مهاجرين يهود من كل أنحاء العالم محلّ المواطنين الفلسطينيين، أهل البلاد الشرعيين.

هل ترى أن المؤسسة الثقافية الرسمية الفلسطينية تقوم بدورها الحقيقي تجاه حماية وصون الثقافة والهوية الفلسطينية في داخل الوطن المحتل وخارجه، وبالتالي التأسيس لحالة ثقافية دائمة وذات تأثير على وعي الناس؟
شقير: لا أعتقد ذلك، وذلك بالنظر إلى ضخامة الجهد المطلوب والتطلعات التي يجب إنجازها. فرغم ما قدمته المؤسسة الثقافية الرسمية من إنجازات هنا وهناك إلا أن المطلوب هو أكثر من ذلك بكثير.
حين نتذكر ضآلة الموارد المالية المرصودة للثقافة في موازنة السلطة الفلسطينية ندرك إلى أيّ مدى تستصغر السلطة قيمة الثقافة، وبالطبع، فإن هذا الأمر ينعكس على نشاط المؤسسة الثقافية الرسمية حتى وإن كان في إطارها أشخاص راغبون في تعزيز دور الثقافة داخل الوطن المحتل وخارجه.
ولو أجرينا مقارنة سريعة بين ما تفعله سلطات الاحتلال الإسرائيلي تجاه النتاجات الأدبية الإسرائيلية وبين ما تفعله السلطة الفلسطينية تجاه النتاجات الأدبية الفلسطينية، لأدركنا حجم التقصير. في الحالة الإسرائيلية، ثمة مؤسسة متخصصة في ترجمة النتاجات الأدبية الإسرائيلية إلى لغات عدة وتوزيعها في العالم، وذلك لحشد التأييد لإسرائيل ولعدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بينما في الحالة الفلسطينية لا وجود فعليًّا لأيّ جهد من هذا القبيل. وفي هذه الحالة، يبقى الأمر وقفًا على بعض دور النشر العالمية التي تتولّى ترجمة بعض الإصدارات الأدبية لأدباء فلسطينيين معروفين، وهذا وحده لا يكفي بطبيعة الحال.

ما هي أهمية الدور الذي يقع على عاتق المثقف في واقعنا الفلسطيني؟ وهل ترى أنه استطاع أن يقدم قضيته بالشكل المطلوب؟
شقير: رغم التزام الغالبية العظمى من المثقفين الفلسطينيين بالتعبير عن الهم الوطني الفلسطيني في كتاباتهم، إلا أن اضطلاعهم بمواقف فعلية ناقدة للسلطة ومؤثرة في مسار الأحداث ليس في المستوى المطلوب، بل إن هناك نوعًا من العزلة ومن التخلي عن هذا الدور بالنظر إلى التبعات المترتبة على القيام به، وبالنظر إلى تهميش السلطة السياسية لدور المثقف وإبقائه في الظل، لأن السلطة نفسها لا تحتمل النقد إلا في حدود ضئيلة لا تمسّ جوهر سلطتها، ولأنها لا تدرك بشكل فعلي أهمية الثقافة في بناء الإنسان وفي تعزيز هويته وإغنائها، وفي تصليب إرادته وتمكينه من الصمود في وجه ممارسات المحتلين الصهاينة والتصدي لمخططاتهم التهويدية التوسعية. لذلك، تكتفي السلطة بثقافة المشهد والاستعراض من دون الغوص إلى جوهر المسألة ووضعها في المحلّ اللائق بها، ومن ثمة وضع المثقف في المحل اللائق به، مع التنويه بأن من واجب المثقف ألا ينتظر أن تحمله السلطة وتضعه في المحل اللائق به، إذ عليه هو نفسه أن ينتزع هذا الدور المنتظر منه.
إن ما يدفعني إلى التذكير بضرورة اهتمام السلطة بالثقافة نابع من حقيقة أن للسلطة مصلحة في تفعيل دور الثقافة في مواجهة الاحتلال، لأنها وبحسب برنامجها الخاص بإقامة الدولة المستقلة يجب أن تكون معنية بذلك، أي بتفعيل دور الثقافة.

ما هو مفهوم الثقافة الوطنية في ظل ما نشهده من عولمة ومتغيرات؟
شقير: نحن الفلسطينيين ما زلنا نعيش مرحلة التحرر الوطني بالنظر إلى أن بلادنا ما زالت ترزح تحت الاحتلال، وهذا يرتّب علينا مفهومًا محددًا للثقافة الوطنية يعلي من شأن القيم التي تحض على حب الأرض والوطن، وعلى التضحية في سبيلهما، ويستنفر، أي هذا المفهوم، كل مخزونات الذاكرة الجمعية للشعب من تراث شعبي وأغانٍ وحكايات وخصائص قومية ووطنية لزجها في معركتنا ضد الاحتلال، ولإحيائها وتطويرها ضمن هذا السياق، ويحافظ في الوقت نفسه على وحدة الشعب على أسس وطنية جامعة، وفي أولها الموقف المبدئي من الاحتلال لجهة رفضه وضرورة مقاومته.
ثمة عنصر جديد في الحالة الفلسطينية، ناتج عن تشكيل السلطة الفلسطينية في الوقت الذي ما زال فيه هذا الاحتلال موجودًا فوق أرض الوطن. هنا يتداخل الوطني مع الاجتماعي، وتكتسب الثقافة الوطنية بعدًا جديدًا يضع في الاعتبار نقد السلطة والدفاع عن مصالح الناس ضد ما في السلطة من بيروقراطية وفساد، جنبًا إلى جنب التحريض من خلال أدوات الفن والأدب ضد الاحتلال وممارساته العنصرية الاستيطانية.

هل يمكن الحديث عن مشروع ثقافي صهيوني وما هي ملامحه إن وجد؟
شقير: يمكن القول إن الحركة الصهيونية تأسّست ونهضت على جذر الثقافة والأدب. إذ قبل أن تتبلور هذه الحركة سياسيًا، كانت هناك كتابات أدبية كتبها يهود وغير يهود، راحت كتاباتهم تبشّر بعودة اليهود إلى أرض الميعاد، فلسطين، ومارست هذه الكتابات من أجل ذلك تضليلاً وتزويرًا للحقائق من أجل غسل أدمغة العالم حول الحقائق الخاصة بفلسطين وبتاريخها القديم والحديث.
وحين تشكلت المفاهيم السياسية لهذه الحركة، واصلت تسخير الأدب لخدمة أهدافها الاستعمارية الإحلالية الإقصائية، وقامت بتسييس الدين واستخدامه في التغطية على جوهرها العنصري الذي يعني أوّل ما يعني: تجاهل وجود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، والإنكار التام لهذا الوجود.


برأيك ما هو سبب عدم قدرة المثقف الفلسطيني خاصة والعربي عموما على تفكيك المشروع الصهيوني ثقافيا؟
شقير: أعتقد أن جهودًا لا يستهان بها بذلت في هذا الميدان، من أبرزها ما قام به غسان كنفاني في دراسته للأدب الصهيوني في العام 1967، فقد عرّى الأسس التي قام عليها هذا المشروع، وقام بدراسة عشرات المؤلفات الأدبية التي كتبها يهود وغير يهود، وهي التي بشرت بهذا المشروع قبل أن تتضح معالمه السياسية في شكل حركة منظمة. ثم إن جهودًا أخرى قام بها دارسون فلسطينيون ضمن هذا السياق الذي يفضح حقيقة المشروع الصهيوني ويعرّيه، من بينهم صلاح حزين، وليد أبو بكر، حسن خضر، والدكتور عادل الأسطة.
من جهة أخرى، ثمة جهود بذلت من جانب مثقفين إسرائيليين معادين للصهيونية، مثل إيلان بابيه الذي فضح في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” خطة بن غوريون التي أُطلق عليها اسم “الخطة داليت”، وتمّ بموجبها تنظيم مجازر إبادة ضد قرى وبلدات فلسطينية إبان نكبة العام 1948، وثمة ما كتبه عوز شيلاح الكاتب الرافض للصهيونية ولإسرائيل في “أراض للتنزه” وهي كما وصفها مؤلفها “رواية في شذرات، تتحدث عن وجود لليهود فوق أرض فلسطين يحاول بشتى الطرق أن يخفي تحته وجودًا فعليًّا لشعب آخر ما زالت آثار قراه المدمرة بادية للعيان”.
في هذا السياق كيف ترى تناول الأدباء الفلسطينيين، وخاصة داخل الأرض المحتلة، للآخر (اليهودي).. وما سبب ابتعاد الكثيرين منهم عن تناوله بشكل مباشر وعميق؟
شقير: هنالك أعمال أدبية فلسطينية غير قليلة تناولت هذا الآخر من زوايا مختلفة. أذكّر في هذا الصدد برواية “المتشائل” لإميل حبيبي. ورواية “الصورة الأخيرة في الألبوم” لسميح القاسم. وأذكّر بروايات “مدينة الله” لحسن حميد، “هوان النعيم” لجميل السلحوت، “زغرودة الفنجان” للأسير في سجون الاحتلال حسام زهدي شاهين. وغيرها من روايات وقصص وقصائد.
إلى أي مدى يمكن أن يساهم الالتزام السياسي بفكر أو قضية ما على الناحية الجمالية أو الفنية للعمل الإبداعي، خاصة وأن هناك نقادًا يتهمون “النص الفلسطيني” بأنه مباشر وانفعالي؟
شقير: ربما وقع هذا في بعض فترات التاريخ الفلسطيني المعاصر، مثلًا في فترة صعود الكفاح المسلح ضد الاحتلال وتمجيد الفدائي “الذي خلقا من جزمة أفقا” على رأي محمود درويش، وفي فترة الانتفاضة الأولى حيث أقدم شعراء كثيرون على تمجيد أطفال الحجارة، ما حدا بمحمود درويش أن يقول ذات مرة في حوار أجري معه “إن شعر الانتفاضة بحاجة إلى عشرة آلاف عامل لتنظيفه من الحجارة”.
لكن مما لا شك فيه أن ساحة الأدب الفلسطيني ظلّت طوال الوقت وإلى الآن تحفل بنماذج أدبية راقية لا تضحّي بالجمالي من أجل المضمون المباشر، وهي في الوقت نفسه لا تضحّي بالمضمون النضالي الإنساني للمقاومة الفلسطينية بكل أشكالها من أجل جمالية شكلية فارغة.
يلاحظ ازدياد ابتعاد الكثير من الأدباء الفلسطينيين بشكل خاص عن الموضوع الفلسطيني في الآونة الأخيرة، وتقوقعهم أكثر حول ذاتهم استنادًا لفكرة أنه “لا أدب حقيقيًا خارج الغوص في الذات”؟
شقير: في كل الأحوال، لا بدّ من دخول الأدب الجيد إلى مصهر الذات وإلا لكان فاقدًا للروح وللقدرة على الإقناع. ثم إن حصر الأدب الفلسطيني في دائرة الموضوع الفلسطيني، بمعنى النضال ضد الاحتلال، قد يُبقي هذا الأدب في دائرة ضيقة ليس من الإنصاف إبقاؤه فيها وحسب، وهذا بدوره يطرح سؤالاً مشروعًا عن ماهية المشروع الفلسطيني: هل هو فقط ما له علاقة بالاحتلال وبالغزوة الصهيونية لفلسطين، أم هو واقع فلسطين وشعبها بكل ما لهذا الواقع من تشعبات، وبكل ما لهذا الشعب من طموحات وتطلعات من أجل الحرية والعدالة، ومن أجل العيش الطبيعي مثل باقي شعوب الأرض؟ أظن أن ما أقصده بات واضحًا، وأنا أفهم تقوقع بعض الكتاب الفلسطينيين حول ذاتهم على اعتبار أن ذلك بوجه من الوجوه تعبير غير مباشر عن صلف الواقع الذي نحياه، وعن تأثير هذا الواقع على داخل النفس البشرية. ولعل هذا الأمر يقودنا على نحو ما إلى أدب المقاومة وإلى ما يمكن إدراجه ضمن هذا الأدب، وأذكّر في هذا الصدد بما ورد في كتاب محمود درويش “أثر الفراشة” حين قال “كل شعر جميل مقاومة”.
أعتقد أن اقتصار الموضوع الفلسطيني على مقاومة الاحتلال إنما هو إفقار للأدب وللحياة. ذلك أن الفلسطيني كائن بشري مثل بقية البشر، له تطلعاته الوطنية وله همومه الشخصية، ولا ضير من تناول هذه الهموم ما دامت تقدم الفلسطيني إلى العالم على اعتبار أنه كائن بشري يستحق الحياة الحرة الكريمة المشتهاة.
________
*الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *