*إبراهيم اليوسف
“لو كان محمود درويش بيننا الآن؟” .
“إنه بيننا الآن” يجيبه الآخر . هكذا يتم الحديث عن الشاعر الكبير محمود درويش “1941-2008” الذي تمر ذكرى رحيله السادسة في هذه الأيام . حيث يتم استذكاره أنى تضببت الآفاق، وانسدت، ضمن الفضاء الجغرافي الشسيع الذي يعنى به، وهو ابن فلسطين الذي كتب عن وطنه، كما كتب عن أهله، وعن قضايا العالم، طوال عقود من عمره، وهو ليس بغريب على من تجرع مرارة الطرد من بيته، ومسقط ذكرياته الأول، ومهاد روحه الأول، فتح عينيه، وهو الطفل، ابن السابعة من عمره، على احتلال وطنه، من قبل غرباء، دخلاء، صار يعرفهم تدريجياً، وتنفر روحه، من أشكال استبدادهم، وعنفهم، بحق أسرته التي تشردت من قريته “البروة” الجليلية، بل وبحق أهله، وجيرانه، وأقرانه الأطفال، لتتولد في نفسه روح المقاومة التي وجد في القصيدة أداة رئيسية لممارستها، بالتوازي مع ذلك الفدائي الذي يسترخص روحه من أجل قصيدته .
ويمكننا أن نجد في حياة درويش منذ طفولته الأولى الجريحة، ومروراً بتشرده مع أبناء شعبه، تراكماً هائلاً من الأحداث، والآلام، والمصاعب، والتحديات الكبرى، وهي جميعها تظل مألوفة، عادية، ما دام هناك امرؤ، بل شعب في مهب الرياح التي تستهدف اقتلاعهما من الجذور، بيد أنه ينتمي إلى هؤلاء الذين لم يستسلموا أمام الأهوال التي جابهوها، سواء أكان ذلك عبر سنوات دراسته التي تعرف خلالها الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان من الفصائل الناشطة، فكرياً، أو حتى في مدرسة الواقع التي كانت تقود إلى المدرسة النضالية نفسها، في تلك المرحلة . واستطاع أن يجيب عن أسئلته الأولى التي كانت روحه المستعرة، ألماً، ومعاناة، تطرحها، ما جعله يتخذ لنفسه خطاً فكرياً إنسانياً، يحقق له من خلال الانتماء إليه إمكان خلق التوازن النفسي، لاسيما أن القلق العارم كان يتأجج بين ضلوعه، إنه قلق جيل يكتب عليه أن يضيع، ويمحى، ويفتقد هويته، وملامحه، ولغته، وتاريخه، بل وقبل كل ذلك، تاريخه، وجغرافياه، وإنسانيته، وما كان يضرم أوار هذا القلق، أكثر، تزواجه مع قلق آخر، هو قلق الإبداع، قلق الشاعر، الذي يندلع من جراء قراءة كل ما يحيط به من تناقضات، فما أصعب ذلك الإحساس الذي يراد له أن يختنق، وألا يظهر، في حضرة محاولات تذويب الشخصية، بل وسرقة ذكريات الشاعر، ومكتبة بيته، وسريره، وزقزقة عصافير داره، ورائحة أوراق شجرة الليمون التي طالما استظل بها، وهو يرى في تلك الصباحات الأولى، كيف يتعامل أبوه معها بحنو جم، يؤنسها، بيد أنها- هي الأخرى- قد غدت أسيرة، كما ملعب طفولته كله، بعد أن حول هذا المحتل علاقته مع أكثر المقربين إليه، من وجوه أصدقاء الطفولة، والجيران، إلى مجرد ذكرى لا يمكنه مفارقتها، لأنها تستوطن في مسامات ذاكرته العصية على المحو .
وما دام درويش ينتمي إلى تلك النخبة التي تتشبث بإرثها، وبماضيها، وتعرف حدود حقوقها، بل ترفض اغتصاب تاريخها، فلم يتردد عن تشخيص كل ما شاهده بأم عينه، منذ بداية رحلة الألم، والهجرة إلى-الجديدة- اللبنانية، ومن ثم العودة متسللاً مع الأسرة، بعد ماسمي-آنذاك- بالهدنة- وهو ما جعله يسمي ما حوله بأسمائه الحقيقية، من دون خوف، الأمر الذي لايسكت عنه المحتل، الذي جرعه علقم السجن، للمرة الأولى، وهو في العشرين من عمره، ما دفعه للتعبير عن خياراته-أكثر- إذ نال ثقة من حوله، ليكون أحد أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، تقديراً للدور الذي قام به، لاسيما أنه راح يشتغل على خطابه الإبداعي، ولتكون قصيدته سجل صورة طبق الأصل عن تجربة الشعر الفلسطيني، ليس بدءاً من صرخته المدوية “سجل أنا عربي” وليس انتهاء بآخر قصيدة كتبها، وهو على سرير الموت، بل لأن حصيد سيرته الإبداعية -بحد ذاتها- ملحمة فنية جمالية، وهو ما نقوله- هنا- انطلاقاً من حقيقة أنه يرتقي إلى مقام هؤلاء الشعراء الكبار في التاريخ، ممن لايتكررون- حقاً- ما منحه فرادة استثنائية ليس في عالم الشعر المقاوم، أو العربي، بل في تاريخ الشعر عامة .
لقد توافر للقضية الفلسطينية، على امتداد ستة عقود ونيف، من عمرها، من تناولها عبر الأدب والفن، من شعر، وقصة، ورواية، ومسرح، وتشكيل، بل وموسيقى، وسينما إلى جانب من تناولوها عبر مجلدات هائلة: تأريخاً، وتوثيقاً، ورصداً، بيد أن شعر المقاومة الذي يشكل درويش- في الحقيقة- أحد أهم أضلاعه الذهبية، بل يشكل خط دفاعه الفني الدلالي الجمالي الأول، دعاه ليعطي القصيدة أهميتها الكبرى في تاريخ الفلسطيني، وهو يتشبث بأرضه، يذود عنها، قريباً عنها، أو مبعداً، على حد سواء، بما أوتي من قوة .
طوبى لروحك، أيها الشاعر، وهي تقرأ المشهد، وأنت هناك، في مرقدك، لا تفتأ ترسل أناشيدك للأهل، للعالم، مادمت ذلك السفير الأزلي لكل قضية، لكل فلسطين وكل ثورة، للمظلوم في وجه الظالم، مادام القتلة متشابهين، مستنسخين، رغم مابينهم من فوارق ومسافات من اللغات والجغرافيات .
_______
*الخليج الثقافي