*عبده وازن
تستحق مراثي محمود درويش التي عكف على كتابتها، نثراً وشعراً، طوال أعوام، أن تُجمع في كتاب يتيح قراءتها متواليةً وفق تواترها الزمني. هذه المراثي التي تبعثرت هنا وهناك، في الدواوين والكتب وظل بعضها وقفاً على مجلات وصحف، تؤلف مجتمعة كتاباً لم يخطر في بال صاحبها أن يصدره يوماً. وقد تكون نصوص هذا الكتاب من أجمل النصوص التي كتبها الشاعر في لحظات تامة العفوية، يشوبها الحزن والألم والسخرية القدرية العميقة الأثر.
هذه النصوص والقصائد جُمعت أخيراً في كتاب أعده سمير الزبن وقدم له سعيد البرغوثي وعنوانه «محمود درويش – المراثي» مع عنوان إضافي «يكسر إطار الصورة ويذهب» (دار كنعان، دمشق). وهو كتاب يمكن بسهولة إضافته إلى قائمة كتب شاعر «جدارية» نظراً إلى جماله وفرادة مادته وجوّه المأسوي. لم يغفل معدّ الكتاب مرثية نثرية كتبها درويش، في الصحف والمجلات، ولا قصيدة ضمتها دواوينه، وأدرجها كلها بحسب تواريخها، مما جعلها تبدو كأنها منسوجة بعضاً ببعض عبر خيط متين هو خيط الرثاء.
لم يكن محمود درويش غريباً عن فنّ المراثي، في شعره كما في نثره، فالشعر لديه يضمر حالاً من الرثاء غير المعلن حتى في أوج حماسته الغنائية وإصراره على الأمل والحب وانحيازه إلى ما يستحق أن يُعاش على الأرض. لكنه رثاء لا يسعى إلى الظهور لئلا يُتهم بالرومنطيقية العارية والبكاء والشجو. بل هو رثاء يؤثر على طريقة لوركا وبابلو نيرودا أن يستحيل «نشيداً عاماً» ولكن خافت النبرة، عميقاً ومتوارياً خلف غنائيته المجروحة.
غير أن محمود درويش لم يتوان لاحقاً عن المجاهرة برثائياته ولكن ليكون هو الراثي والمرثي في آن، كما يقول. وفي قصيدته شبه الملحمية «جدارية» وما أعقبها وبخاصة «في حضرة الغياب» ارتفع صدى الرثاء الشخصي الذي لا يخلو من تلاوين الجرح الفلسطيني الجماعي، لكنه ظل صدى ولم يصبح نشيجاً عالياً. حينذاك راح درويش يواجه موته الخاص، شعرياً وميتافيزيقياً، كاتباً أجمل القصائد. وفي إحدى تجلياته الشعرية يقول مخاطباً نفسه وكأنه الآخر: «…أنت مسجى أمامي/ كقافية غير كافية لاندفاع كلامي إليك…». ومما يقول أيضاً: «ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة… وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس…». ولئن خاطب شاعرنا الموت وجهاً لوجه وبجرأة قائلاً له: «هزمتك يا موت الفنون كلها»، فهو لم يتجاهل ذهابه الوشيك إلى «موعده» فور أن يعثر على قبر لا ينازعه عليه غير أسلافه بـ «شاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف اسمي…».
تفرّد محمود درويش في مراثيه النثرية تفرّدَه في مراثيه الشعرية، ولعله بلغ في نثره هذا ذروة الإبداع، سلاسة وقوة، وبدت هذه النصوص غاية في الجمال والتوتر، متماسكة على ليونة، حادة وقارصة في سخريتها المأسوية، مجروحة بألم لحظة الموت. وكم غدت مطالعها آسرة بضربتها الأولى الحية والنزقة واندفاعها المشدود كوتر. في النص الذي رثى فيه غسان كنفاني عام 1972 وهو أول نصوصه في الرثاء خاطبه قائلاً: «جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حتى يئس الموت منك وانتحر». وعندما قرأ الشاعر الشهيد كمال ناصر ما كتبه محمود عن كنفاني جاءه غاضباً وسأله: «ماذا ستكتب عن موتي بعدما كتبت كل شيء عن غسان؟». ولم يمض وقت حتى استشهد كمال فرثاه محمود بنص قوي وسافر، حزناً ومواجهة، عنوانه «هو… أكثر من الكلمات». وعندما توفي الروائي اميل حبيبي كتب: «مَن يودع مَن، أيها الساحر الساخر من كل شيء؟»، وأضاف: «باق في حيفا حيّاً وحيّاً. باق في حيفا، هذا الاسم الذي سميّتَ به اسمك». واستهل رثاءه ياسر عرفات قائلاً: فاجأنا ياسر عرفات بأنه لم يفاجئنا». ورثى الكاتب الشهيد سمير قصير بنص بديع عنوانه «امتلاء النرجس بالحكمة» واستهله: «كلما التقيت باسمه، أصغيت إلى أغنية صغيرة تمجد قران الفتوة والوعي، واقتران الرأي بالشجاعة». وعن محمد الماغوط: «هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك كان نجماً دون أن يدري ويريد».
أما في المراثي الشعرية فكان محمود درويش الشاعر الذي كانه وإن بدت المراثي النثرية في أحيان أرقّ وأصلب من رديفتها الشعرية. وهنا يكمن سر درويش الناثر. كأن نثره في مثل هذه اللحظات، كان أشد استجابة لرحيل الأحبة، على خلاف القصيدة التي لا بد من صنعها مهما اشتد أوار الفقد. النثر ليس مكشوفاً و»عطوباً» مثلما هو الشعر. النثر يحتمل اللعب على الكلام والتحايل على اللغة والأسلوب، أما الشعر فإما أن يصيب أو لا. هكذا بدت المراثي الشعرية في حال من التفاوت، بعضها بلغ ذروة الصنعة الجمالية ذات الخلفية الثقافية مثل قصيدة «طباق» التي رثى فيها ادوارد سعيد، وبعضها كان من قبيل الرثاء للرثاء، سياسياً وقومياً، وأداء لواجب لا بد من أن يؤديه شاعر فلسطين. لكنّ قصائد عدة هي من عيون المراثي الدرويشية والعربية، وانطلاقاً منها يمكن استخلاص مزايا شاعرنا في حقل الرثاء والأثر الذي تركه فيه.
لم يشعر محمود درويش يوماً أنه مرغم على الرثاء مع أنه رثى كثيرين، معظمهم من الفلسطينيين، مناضلين وزعماء وشعراء وروائيين، ورثى أصدقاء عرباً له فقدهم بأسى ومنهم نزار قباني وأمل دنقل وجوزف سماحة والرسام إبراهيم مرزوق والشاعر خليل حاوي الذي انتحر مطلقاً النار على نفسه عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982 فخصّه بمقطع في قصيدته الطويلة «مديح الظل العالي» مختصراً مأساته أجمل ما يمكن اختصارها: «في بيته بارودة للصيد / في أضلاعه طير…».
_______
*الحياة