*نزار حسين راشد
خاص ( ثقافات )
منذ المحاولة رقم7″،نَزَع محمود درويش إلى التجريديّة والرمز،ولعلّه رأى في المباشرة صوتاً عالي الرنين،بعد أن غادر الوطن،وحوّل قضيّته إلى صوفيّة شعريّة،تراوح بين اليأس والأمل،بين الوجود والعدم،وقد أصدر حكمه المسبق،كما وشت قصائد تلك المرحلة،بأنه لا وجود لمحطّة أخيرة،وأنّه يواصل السير فقط،لهدفٍ آخر،غير بلوغ النّهاية المستحيلة،وقد افتتح هذا التقرير في المحاولة رقم” 7″:
تكونين أقرب من شفتيّ إليّ
وأبعد من قُبلةٍ لا تصل……
ثُمّ أكّده بعد ذلك في:قافية من أجل المعلّقات!
ولدت من لغتي
على طريق الهند
بين قبيلتين صغيرتين
يحدوهما قمر الديانات القديمة
والسلام المستحيل!
فهو لا يعيد تأكيد يأسه من بلوغ النهاية فحسب،ولكنّه يقرّر ملجأه الأخير:”صومعة الّلغة،والّتي جهرت بها مرثيّته لنفسه،أو جداريّته:
لا أُريدُ الرجوعَ إلى بلدِ
بعد هذا الغياب ألطويل …
أُريدُ الرجوعَ فَقَطْ
إلى لغتي في أقاصي الهديل
تقولُ مُمَرِّضتي :
كُنْتَ تهذي طويلا ً ، وتسألني :
هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ
أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ ؟
فقد ولد من لغته وسيبقى فيها،إلى أن يأتي الموت!والموت موت اللغة!
محمود ذو النزعة الوجودية،والمتأثر بجان بول سارتر،وألبير كامي،مسّت روحه الرعشة العبثية ،فكاشفها في مرثيّته أو جداريّته،حين حدّق الموت في عينيه،وحام قريباً من سريره في المستشفى الباريسي:
باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ،
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ …
والتاريخُ يسخر من ضحاياه
ومن أَبطالِهِ …
وها هو يحاول التصالح مع موته واستمهاله في إشفاق مهين من النّهاية المحدقة:
ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموت
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع
وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا
يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ
مالَكَ من حياتي …
ويكرّس تأكيد اللاجدوى،فلا نضال ولا كفاح ولا حلم وطني قابل للتحقّق،فالوطن حُلُمٌ لا يُدرك،ولا شيء يرجع غير ماضي الأقوياء:
لاشيء يرجعُ غيرُ ماضي الأقوياء
على مِسلاَّت المدى … [ ذهبيّةٌٌ آثارُهُمْ
ذهبيّةٌٌ ] ورسائلِ الضعفاءِ للغَدِ ،
أَعْطِنا خُبْزَ الكفاف ، وحاضراً أَقوى .
فليس لنا التقمُّصُ والحُلُولُ ولا الخُلُودُ…..
تحرَّكْ قبل أَن يتكاثَرَ الحكماءُ حولي
كالثعالب : [ كُلُّ شيء باطلٌ ، فاغنَمْ
حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً حُبْلَى بسائلها ،
دَمِ العُشْب المُقَطَّرِ . عِشْ ليومك لا
لحلمك . كلُّ شيء زائلٌ . فاحذَرْ
غداً وعشِ الحياةَ الآن في امرأةٍ
تحبُّكَ . عِشْ لجسمِكَ لا لِوَهْمِكَ .
وانتظرْ
الوقْتُ صِفْرٌ . لم أُفكِّر بالولادة
حين طار الموتُ بي نحو السديم ،
فلم أكُن حَيّاً ولا مَيْتاً،
ولا عَدَمٌ هناك ، ولا وُجُودُ
أمّا العودة إلى الوطن فهي عودةٌ شبحيّة،حيث ينتظره ابن السجّان،الّذي ورث مهنة أبيه:
قلتُ للسّجَّان عند الشاطئ الغربيّ :
– هل أَنت ابنُ سجّاني القديمِ ؟
– نعم !
– فأين أَبوك ؟
قال : أَبي توفِّيَ من سنين.
أُصيبَ بالإحباط من سَأَم الحراسة .
ثم أَوْرَثَني مُهمَّتَهُ ومهنته ، وأوصاني
بان أَحمي المدينةَ من نشيدكَ …
وإذن فنوبة الحراسة لا تنتهي،في عبثيّة لا نهائيّة يسلمها الأب إلى الإبن،عبثٌ لا يزعجه إلا حضور الشاعر بقصيدته،وهي نرجسيّة باح بها محمود نفسه أيضاً:
ولي منها تأمُّلُ نَرْجسٍ في ماء صُورَتِهِ.
وحتّى رجوعه الأخير،جثّة تشيّع لمثواها الأخير،فهو يكرّرلحن الزندقة الوطنيّة،متباهياً بكفره الراسخ بفكرة التحرير ومسخرة الصمود”صمود التين والزيتون”،بما يوحيه ذلك من تضمينات جارحة للقداسة الراسخة في الوجدان الشعبي،والمتعلّقة بالنص القرآني”سورة التين”:
حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني
بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي
سورةُ الرحمن في القرآن
وحتّى سورة الرّحمن يوظّفها لحناً جنائزيّاً،للغياب في الفكرة،والمعانقة النهائيّة للموت!
محمود الذي حجبه تمركزه حول الذات،وفكرته الخادعة والمخادعة عن اليهود،والّتي حجبت عنه الرؤيا وألقت على بصيرته ستاراً كثيفاً،فلم ير إعدام الجنود المصريين بعد استسلامهم كأسرى حرب في عام 1967،ولم ير الدبّابات المتقدّمة وهي تسحقهم،بعد أن رفعوا الراية البيضاء،لا بل كتب قصيدته:”جندي يحلم بالزنابق البيضاء”،مضفياًاً أبعاداً إنسانيّة على شخصيّة الجندي الإسرائيلي،المولود من رحم:شتيرن والهاجاناه،لا بل وينطقه بأسئلة وجوديّة،لا وجود لها إلّا في مخيّلة محمود نفسه!
محمود الّذي لم يسعفه الإيمان الديني ، مضى إلى آخرته حاملاً أوزاره،ومعلّقاً مرثيّته،في فراغ الجحود،في تناقضٍ تاريخي حتّى مع المعلّقات الجاهليّة والّتي علّقت على جدار الكعبة،محل القدسيّة المشتركة بين الجاهليّة والإسلام،فأيّ جدار عربي يقبل أن تعلّق عليه جداريّة تنتهك القدسيّة ذلك الإنتهاك الفاضح؟!