*خيري منصور
هل تكفي السبع العجاف التي مرّت منذ ترجّل الحصان عن القصيدة، لإعادة النظر في سيرة خاطفة شهدت اشتباكا بين الشاعر وما اقترن بصورته من إسقاطات اجتماعية ونقدية؟ أم أن محمود درويش سيبقى رهينة من ادعوه صديقا ومن اختطفوه من التابوت ومن أعلنوا عصيانه على التفكيك؟ فالشاعر رحل وفي نفسه شيء قلّما باح به، هو النقد الذي لا يحوله إلى بقرة هندوسية، ولا يحوّله إلى أيقونة، ولا يصفّي معه حسابات سياسية ونفسية، هذا على الرغم من وفرة الاطروحات الأكاديمية عنه وفائض الإنشاء الصحافي الذي وجد فيه حاضرا وغائبا ما يسدّ فراغا مُزمنا.
وما من مرة كتبت عنه إلا وترددت مرات قبل العثور على مقترب موضوعي، يحررني من الانجذاب الإنساني إليه، فمن يفتقدون محمود الشاعر قد يجددون اللقاء به عبر نصوصه، لكن من يفتقدون فيه الإنسان لا سبيل أمامهم إلا التداعيات، فالذاكرة مفعمة بتفاصيل إنسانية ما أن تبدأ ذكراها بالتدفق حتى يتضاعف الشّجن، فالرجل الآن في مكان آخر، أما شعرُه فهو هنا بكامل عافيته. وأوشك أحيانا أن أقول بأنه المجهول رغم كل هذه المعرفة المتداولة عنه، وإن كان لا بد من بورتريه بقلم الرصاص، فالشاعر الذي انحاز للحياة بشغف وقال إنها جديرة بأن تعاش، كان لديه من الزهد السرّي بها ما جعله يتقدم نحو الموت، كما لو أنه على موعد مع ولادة ثانية، ونصوصه الأخيرة تجزم بذلك، بدءا من الاعتراف بالهزيمة أمام القدر، كقوله من أنا لأخيب ظن القدر، إلى وصفه التراجيدي المشوب بقدر من السخرية لقبره ومساحته وما سوف ينبت عليه.
ومن عرفوه عن قرب وأزعم أنني أحدهم يصابون بالدهشة وهم يقرأون أو يسمعون إعادة إنتاجه بل اختراعه بعيدا عن حقيقته، فهو لم يشعر لحظة واحدة بالاطمئنان لما يكتب، وطالما ردد عبارات تبدو لمن لا يعرفه عن كثب بأنه يمارس لعبة التواضع لجذب المزيد من مريديه، كان يقول إنه منذ النص الأول حتى الأخير يشعر بالقلق من صدى ما ينشر وكأنه يفعل ذلك للمرة الأولى. خجول ورث هذه الخصلة عن أبيه، وكان كلما حاول إخفاء خجله بالغ في المواجهة، رغم أنه رفض الاعتذار عن كل ما فعل، إلا أنه اعتذر مرارا عما قال.
* * *
إنه الآن في مكان آخر، ولا يتولى الدفاع عنه شاعرا وإنسانا إلا منجزه الباقي، لهذا فالباب مفتوح على مصراعيه أمام من تذرعوا بالتردد في الكتابة عنه كما هو، ومن تذرعوا أيضا بأنه يفرض أفقه. عانى محمود من اختزال مزدوج، فكل كلمة يكتبها محكوم عليها مسبقا بالنوايا على أنها أسيرة الجغرفة، وكأنه شاعر تسجيلي، رغم أنه تنبه مبكرا إلى ذلك، وأطلق على إحدى أطول قصائده وهي مديح الظل العالي قصيدة تسجيلية .
ما من شاعر قبله حسدنا العدو عليه، كما فعل شارون، وما من قصيدة غير «عابرون في كلام عابر» قرئت في الكنيسيت من زعيم صهيوني راديكالي هو شامير للتحريض على شعب من خلال قصيدة قال شاعرها عنها أنها عابرة.
تحصّن درويش في عزلة باهظة الثمن، ولم يكن سعيدا بها، وكانت كلمة مخنوق تتردد كثيرا في مكالماتنا الهاتفية، عندما كنت أقيم في القاهرة، وذات يوم رددها ثلاث مرات مما دفعني على الفور إلى العودة إلى عمان بعد أقل من يوم واحد! قد يكون لما هو حميم مقاما آخر، لكن ما سأقوله قدر ما تسمح به المناسبة هو أن محمود درويش امتاز بذكاء ورشاقة بديهية، جعلاه شاعرا حتى خارج النص، فهو أيضا عاش ليكتب ويشهد، لكن من دون أن يتخلى عن حقه في الرقصة الأبدية، فأقبل على الحياة بقدر ما أدبر عنها عندما خذله قلبه للمرة الأولى وعاتبه بقسوة قائلا ايها القلب الكلب.
روى لي ذات مساء عن لقاء الشاعر ييتس بشاعر شاب كان يحبه، وكان هذا الشاعر جهوري الصوت ووسيما وذا قامة مسرحية وثنية، ما دفع ييتس إلى القول بأن هذه ليست عدالة، وكأن الشاعر عليه أن يعتذر عن صفات معينة ، تماما كما هو التفاح مطالب بالاعتذار عن رائحته للصبير والغزال مطالب بالاعتذار عن سيقانه للأفعى.
أدرك الشاعر أن هناك من يحبونه ميّتا، وكان يذكّرنا بما قال سبندر عن السياب الذي عرفه في منفاه وحيدا وغريبا ومريضا وبلا ملاذ، ثم رأى الاحتفاء به ميّتا، يومها قال أريد أن اعيش شاعرا أوروبيا، لكن أن أموت شاعرا عربيا، فالعرب لديهم شغف استثنائي بالموتى.
* * *
لو عاش محمود حتى الآن لاقترب عمره من الخامسة والسبعين، وهو الأمر الذي كان يخشاه، وحين كتب عن سميح القاسم مقالة في «الكرمل» بمناسبة بلوغه الستين قال له: إنني أعاتبك لأنك تجرني وراءك إلى هذا السن غير المرغوب فيه، وأذكر أنه قال لي ساخرا يومها، إن العرب عندما يشتم أحدهم الآخر يقول له إنه «ابن ستين كلب»، وكأن رقم ستين هو آخر المطاف!
ما من شاعر أو كائن يرحل في موعده لهذا فإن رحيل محمود قبل السّبع العجاف التي قدّر له أن ينجو من جحيمها الذي نصطلي به، نحن الذين اخطأهم الموت، كان مباغتا لمن لا يعرفونه لكنه كان متوقعا بالنسبة إليه، ويبدو أن من قدرهم أن يولدوا مرارا قدرهم أيضا أن يموتوا مرارا، فمحمود كتب بعد أول عملية أجريت له في القلب عن تجربة الموت الذي استمر لأقل من دقيقة، وعن البياض البكر الذي وجد نفسه مغمورا به، وكان قبل ذلك كما أخبرني قد وجد حمامة ميتة على نافذة غرفته في تونس، فأصغى إلى صمتها وكان صمتا أبيض كالذي يصغي إليه الآن وهو ينادم جذور شجر له حفيف يردد صدى قصائده, هو الآن أبعد بكثير من زهر اللوز لكنه أقرب من القلم إلى الورقة التي كتبت عليها هذه السطور….
كم هو الحنين قاس وموحش إلى صديق مات، وكم هو صمت هاتفه الأبدي أبيض وإن كان على هذه الأرض ما يستحق الحياة، إضافة إلى تردد إبريل والمرأة التي تدخل الأربعين بكامل مشمشها واسخيلوس فهو محمود ذاته، لكن لمن عرفوه بعيدا عن التصفيق والكاميرات واوتوغرافات المراهقين.
______
*القدس العربي