عينا «أستريد» تنقذان مليونيرًا من السقوط


*كاتيا الطويل


في روايته بالفرنسيّة «عينا أستريد» (Les yeux d’Astrid، Les Editions Persée ،2015) ينتقل الكاتب اللبنانيّ جان ماري كسّاب بقارئه إلى شاطئ ذهبيّ الرمال دافئ، هو وجهة مثاليّة لميليونير يهرب من حياته، من فشله، من إفلاسه، من ماضيه، من ذكرياته، من وجه والده القاسي، من زوجته التي تطلب الطلاق، من ولديه اللذين اختارا البقاء إلى جانب أمّهما على ملازمته في سقوطه. رجل واحد ومئات الخسارات، مئات الوجوه الشامتة والذكريات القاتلة والخسائر العاطفيّة الفادحة. فما كان القارئ ليتوقّع أن يجد مليونيرٌ خلاصه على شاطئ منعزل تستحمّ رماله تحت خيــوط الشمـس، ما كان ليظنّ أنّ جــنون الكسب والغزو والظـــفر قد تـــروّضه امرأة مستلقية بهدوء وأمواج البحر تتلاطم عند قدميها، مــــا كان ليتخيّل أنّ عينين محتـــجبتين تحت نظّارات شمس سود قد تنــقذان رجلاً من رصاصة حملها في جيبه وسار بها لتوصله إلى الموت.
ويتعرّف قارئ كسّاب إلى المليونير المتكلّم بصيغة الـ «أنا»، يتعرّف إلى فرنسيس واتسون، رجل خمسينيّ احترف اتّخاذ القرارات الاقتصاديّة الصعبة، امتهن الاستثمار في الناس ومضاعفة أرباحه، اعتاد الانتقال من اجتماع إلى آخر والفوز في الاجتماعات كلّها. لكنّ مصائب فرنسيس ليست اعتباطيّة، وفشله ليس لعنة ولا عجلة حياة تبرم برمتها، مصائب المليونير فرنسيس واتسون مصائب رجل سار إلى الهاوية بقدميه، سار إلى الجحيم وهو يتوقّع الاحتراق بنارها بين اليوم والآخر.
ففي ظلّ تكديسه المتهوّر للملايين في حساباته المصرفيّة، في ظلّ ضخامة المليونير المتمتّع بصيت «الثعلب» في أوساط رجال الأعمال، كان السيّد فرنسيس غافلاً عن خساراته العاطفيّة والعائليّة والإنسانيّة. فهو الذي يقلّب صور عائلته لا يقع على صورة واحدة لنفسه، هو الذي يبحث في ذاكرته عن أهمّ اللحظات في حياة ولديه لا يجد سوى بقايا أخبار كانت تصله عبر زوجته، هو الذي ينظر حوله في لحظة إفلاسه يجد أنّه وحيد. كان دومًا وحيدًا في عزلة فرضها على نفسه، في عزلة فرضتها عليه وتيرة حياته وأعماله وملايينه. فرنسيس مليونير مفلس وحيد، مليونير سقط من على عرشه ووجد نفسه جالسًا على شاطئ متوهّج إلى جانب امرأة ملتحفة بنظّارات سود، لا هي تنظر نحوه ولا هي تحاكمه، هي امرأة مرآة، امرأة تذكّره بإنسانيّته، بنفسه الهاربة التي هشّمتها الملايين.
ثلاثة أشياء صغيرة بارزة متعلّقة بشخص فرنسيس الراوي تلفت القارئ ويتمكّن الكاتب من توظيفها في شكل متقن. الغرض الأوّل هو الهاتف النقّال الذي يقرّر فرنسيس رميه في السيارة والتوجّه إلى الشاطئ من دونه، هو الذي عاش سنوات حياته متعلّقًا بهاتفه الذي يصله بموظّفيه وشركائه في مختلف أنحاء العالم. يلعن فرنسيس هاتفه ويلقيه في السيارة ويسير نحو حتفه من دونه، يسير نحو الانتحار بصمت الوحدة التي كانت تسكنه منذ سنوات من دون أن يعلم لشدّة انشغالاته. وكأنّ فرنسيس قرّر قطع آخر صلة تربطه بعالمه السابق، عالم الأعمال والمال والدَّيْن. وكأنّه عندما أشهر إفلاسه خلع عن نفسه المادّيّات والانشغالات وسار عاريًا إلى شاطئ الحياة الأوّل، فالماء رمز الولادة من رحم الأمّ، أصبح رمز ولادة ثانية من رحم البحر بعيدًا من قشور الحياة ومادّيتها وتصنّعها.
أمّا الغرض الثاني فهو المسدّس الذي يحمله فرنسيس في جيبه والذي يكتشف القارئ في الفصل الثاني من الرواية كيف تلقّاه البطل في قصّة تستحوذ على مساحة فصل كامل. فهذا المسدّس الذي تلقّاه هديّة لمناسبة عيد مولده الخمسين تحوّل إلى نوع من الهديّة اللعنة التي ستسبّب الهلاك لصاحبها. لكنّ هذا المسدّس رمز الموت عمومًا ورمز الانتحار في حالة فرنسيس تحوّل إلى رمز حياة، فهو كان شاهدًا على ولادة جديدة لصديق فرنسيس وشاهدًا على ولادة جديدة لفرنسيس نفسه.
ويبقى الغرض الثالث هو علبة السجائر التي يشتريها فرنسيس وينساها في جيبه ويخبر قارئه في فصل كامل عن الحادثة التي حصلت معه عندما اشتراها. اشترى فرنسيس السجائر في فورة غضب وألم وخسارة، اشتراها لضعف عاطفيّ وعندما وصل إلى الشاطئ وعرض على أستريد أن تدخّن معه سيجارة رفضت لأنّ الوقت لم يحن لها بعد قائلة إنّها قد تتناول سيجارة في ما بعد ربّما. لكنّها لا تدخّن معه بل تتحوّل إلى بديل عن السجائر هي التي تُزيح عن كاهل فرنسيس ثقل همومه.
وفي مقابل هذه الأشياء الثلاثة، شيء واحد يتعلّق بأستريد ويلفت فرنسيس والكاتب والقارئ أكثر ما يلفتهم: نظّارات أستريد السود الضخمة التي تحجب عينيها ووجهها. نظّارات كبيرة تشكّل أحجية لفرنسيس الذي يعجز عن رؤية عيني أستريد وتعابير وجهها. ففي مقابل هشاشة الأشياء المتعلّقة بفرنسيس من هاتف إلى مسدّس فسجائر، تظهر النظّارات السوداء متينة متماسكة مخيفة، فهي مصدر الإجابات الوجوديّة المريحة، وهي رمز الأمان والثقة والحياة. وبذلك تتحوّل البطولة من فرنسيس المتكلّم الدائم في هذه الرواية إلى أستريد ونظّاراتها التي تحرّك السرد وتشكّل أجمل مفاجآت الخاتمة وعنصرًا أساسيًّا على صفحة الغلاف نفسها.
فالقارئ الذي يتوقّع أن يكون فرنسيس هو البطل، يجد أنّ اختيار اسم أستريد ليحتلّ عنوان الرواية أمرًا مبرّرًا، واختيار وجه امرأة ذات نظّارات ليحتلّ غلاف الرواية ليس عبثيًّا ولا اعتباطيًّا، فالبطلة هي المرأة: هي محرّك السرد ومخلّص الراوي. فتستعيد بذلك المرأة عند الكاتب اللبنانيّ كسّاب دورها الأوّل وتتجسّد أمًّا وملاذًا ومربّيًا وملجأ للرجل مهما علا شأنه وكثرت ملايينه وتعدّدت سنواته. تتجسّد المرأة إلى جانب البحر، المربّي الأوّل والرحم الأوّل والملجأ الأوّل.
واللافت أنّ الرواية المكتوبة بالفرنسيّة في الأساس، دخلها شيء من الإنكليزيّة والألمانيّة ما جعلها أكثر إثراءً لقارئها. إضافة إلى عدد من أبيات الشعر أو الجمل المنتقاة من النثر العالميّ التي وردت أوّل بعض الفصول أو آخرها، فشكّلت محطّة فكريّة تمهيديّة جميلة. والرواية متينة السبك قائمة على خمسة وعشرين فصلاً تنتهي بفصل أخير عنوانه «عينا أستريد» تتبعه ثلاثة فصول أحدها بلسان فرنسيس والاثنين الأخيرين هما رسالتان. ولكلّ فصل من هذه الفصول الذي لا يتخطّى الثلاث أو الأربع صفحات عنوان خاص به.
ويبقى عنوان واحد هو أكثر عناوين الفصول تميّزًا وتوهّجًا وهو الذي شكّل جوهر الرواية ومبحث شخصيّاتها كلّهم وهو عنوان الفصل الحادي عشر: إلى أين تراها ذهبت السعادة؟ (Mais où est donc passé le Bonheur).
«عينا أستريد» رواية الإنسان الغارق في بحور المال والمادّيّة، رواية الثريّ التعيس الذي لم يكتشف معنى حياته إلاّ عندما خسر ملايينه، رواية الطفل الذي لم يحبّ المال يومًا إنّما أراد أن يثبت نفسه، أن يبرهن لأبيه أنّه قادر على الفوز والانتصار والظفر. فيقول فرنسيس: «كان تكديس المال آخر همٍّ لديّ، وحده الظفر كان يعنيني.» (ص 32). ويخطئ من يظنّ أنّ الكاتب أراد أن يبرهن أنّ المال لا يشتري السعادة، يخطئ من يرى في هذه الرواية رواية ذات بعد اجتماعيّ تعليميّ على هذه البساطة. فرواية كسّاب محفوفة بالإشارات الأدبيّة والثقافيّة من كونديرا إلى فاوست إلى كامو ففان غوغ وسعدي الشيرازي وغيرهم. هي رواية الإنسان الباحث دومًا و أبدًا عن الوقت الضائع، عن السعادة، عن النجاة من الأفخاخ التي تنصبها الحياة للغنيّ والفقير على حدّ سواء.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

الاُنس بمعاشرة الكُتب

(ثقافات) الاُنس بمعاشرة الكُتب د. طه جزاّع[1]  لعل من أصعب أنواع الكتابات، تلك التي تتناول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *