*طالب الرفاعي
لفت نظري في احتفالات السنة الجديدة أن الكثير من دول العالم، إن لم يكن جميعها، حرست الاحتفالات بجيوش من رجال الأمن المدججين بأحدث الأسلحة ووسائل الاتصال، وذلك خوّف أي عملية إرهابية، في حين لم تكن درجة الاستعدادات ولا الحراسات في الدول العربية بهذه الأهمية ولا بهذه الدرجة. فنفر ليس بالقليل من شعوب العرب والمسلمين يُحرّم الاحتفال أصلاً، وبعض آخر يعيش مأساة الحرب، وصارت القدرة على رؤية نور يوم جديد حياة جديدة بالنسبة إليه، ونفر ثالث لم يتمكن من المشاركة في أي احتفال لأن وضعيه الاجتماعي والاقتصادي لم يسمحا له بذلك.
الأسئلة التي تفرض نفسها على المشهد الفكري الإنساني والعالمي كثيرة؛ منْ الذي غذّى الفكر المتطرف الإرهابي حتى صار وحشاً حقيقياً يُخيف العالم ويبطش به؟ ومنْ الذي أوصله إلى هذه الدرجة من الانتشار؟ وكيف تسرّب إلى كل البيئات الإسلامية والعربية والأجنبية، على الرغم من اختلاف بيئاتها وطبيعة قناعات شعوبها؟ وأخيراً ما الوسيلة الأنجع لمحاربته والوقوف بوجهه؟
لا أظن أن عاقلاً يمكن أن ينظر إلى الإرهاب على أنه نبت شيطاني استيقظ العالم في صبيحة أحد الأيام ليراه حاضراً على مائدة الحدث الإنساني. لذا وبغية الوقوف بوجه الفكر المتطرف علينا أن نفهم كيف نشأ حتى يمكن التفكير في كيفية صدّه والتقليل من شروره. كما أن إدانة الفكر المتطرف تتطلب بالضرورة فكراً منفتحاً وغير إقصائي، يمتلك رحابة الصدر التي تتيح له الجلوس مع الآخر والاستماع لقناعاته وحججه ودحض هذه الحجج بالإقناع وبالرأي والرأي الآخر.
الأمر واضح وضوح الشمس بالنسبة للدول العربية، فالإسلام السياسي وأطروحاته الفكرية، في الداخل العربي ومن خارجه، بدأ بالانتشار بشكل لافت بعد هزيمة العرب عام 1967، وظل طوال هذه العقود يعمل بنظام وتصميم وهمة ودأب، وكان ينشر فكره ودعوته إلى كل شبر يطاله وكل إنسان يصادف مروره في طريقه. ولذا تغلغل هذا الفكر في وعي شرائح كل المجتمعات العربية وربما المسلمة، مستغلاً عوز هذه المجتمعات ونقمتها على الأنظمة الدكتاتورية، يضاف إلى ذلك عجز التيارات التنويرية العلمانية العربية عن التواصل الحي مع القواعد الشعبية، وانحصار خطابها ضمن دوائر حزبية وفكرية ضيقة.
الأمر الثاني اللافت للنظر هو أن المجتمعات الغربية ولحظة بدأت أصوات قيادات الفكر الإسلامي المتطرف ترتفع في منطقتنا العربية، وبدأت هذه الأصوات تواجه بقسوة من قِبل بعض الأنظمة العربية، فتح الغرب صدره وأحضانه لاستقبال هذه الأصوات مرحِباً بها أياً كان نهجها وأياً كانت أطروحاتها، ومغمضاً عيونه ووعيه عن عنصريتها وتطرفها. وأبداً لم يكن المشروع الصهيوني ببعيد عن هذا الفعل وهذا النشاط، فزعزعة استقرار المنطقة العربية برمتها، كان ولا يزال الهاجس الأهم للفكر الصهيوني، بوصفه العنصر الأساسي الذي يضمن استقراره وبعده عن مرمى الغضب العربي، ويكرس من جهة أخرى احتلاله البغيض لفلسطين.
اجتمعت الدكتاتورية العربية، وترحيب الغرب ليوقدا النار تحت قدر فكر التيارات الإسلامية الأصولية، وكما كانت النار هادئة، استمرت ربما لأربعة عقود، حتى استوت الطبخة، ونهض المارد من قمقمه، وصرخ منادياً بالويل والثبور لجميع من يقف في وجهه، مسلماً كان أو عربياً أو أجنبياً.
الآن، كان ما كان، لا يفيد التأسي والبكاء على حليب مسكوب، لكن ما يراه المفكرون والباحثون حول العالم يقول بأنه لا سبيل للوقوف بوجه العنف الأعمى إلا بمزيد من الحريات ومزيد من الانفتاح ومزيد من الاستعداد للحوار مع الآخر.
المسدس والمدفع يقتلان الإنسان ويفنيان البشر، لكنهما أعجز بكثير من أن يجتثا فكراً، خاصة إذا كان هذا الفكر منتشراً ومتغلغلاً بين ملايين البشر. الفكرة بالفكرة، ولا شيء آخر. لإنقاذ أي مجتمع ليس لنا إلا العودة للحرية والديمقراطية ومزيد من الإيمان بالعلم والفكر والأدب والثقافة والفن والبعد عن الخرافة وتغييب العقل.
الآخر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً صار يخاف من العرب والعروبة والمسلم والإسلام، لكنه يقف أمام القصيدة واللوحة والفيلم والمسرحية والقصة والرواية. لا يمكننا تغيير فهم وموقف الآخر إلا بلغة يفهمها، وهناك، وبالرغم من آلة البطش التي تمتلكها الأنظمة فإن الشعوب لا تفهم إلا لغة الفكر والأدب والنغم واللون.
_______
*الجريدة الكويتية