*أحمد بيضون
هي الخاطرة إذن ما يستوقفني من بين الموادّ التي يستدرجنا إلى «إنتاجها» الفيسبوك وإلى نشرها على «الحائط» المتاح لنا من ثَمّ. التأمّل في الخاطرة يستبعد الصورة موضوعاً، بالدرجة الأولى. ولكنّه يستبعد أيضاً ـ بين ما يستبعد ـ ركامَ «الروابط». فهذه الأخيرة مفتوحة على الشبكة كلها ـ باستثناء ما أدرجه الفيسبوك في قائمة ممنوعاته ـ : على المقالة المنشورة وعلى الشريط، على القطعة الموسيقية وعلى المعرض الفنّي، إلخ. وهو ما يجرّ إلى تأمّل عامّ في محمولات الشبكة لا يقوى على الوصول به إلى الغاية أحد. الخاطرة شيء محدود جدّاً بين محمولات الشبكة وهو يزداد محدوديةً ـ إزاء أنواعٍ أخرى من الموادّ ـ بين محمولات الفيسبوك نفسه. وأزيد مساحته ضيقاً، من جهتي، حين أحصر همّي في قابلية الخاطرة الفيسبوكية لتحمّل «عمل الكتابة» وفي الخصائص التي تكسبها الخاطرة من انتمائها إلى نشاط «الفسبكة» بعد هذا التحمّل.
لمدّةٍ من الزمن أطلق الفيسبوك على المساحة التي يتيحها للنشر اسم «الحائط». وهو ما يوحي أنها متاحة لـ«الغرافيتي»: أي لأيّ نوعٍ من الكلام (الذي لا تستبعد منه المأثورات والبدائع) وللرسوم أيضاً… على حائطي هذا، حاولتُ أن أستعيد، أحياناً، نصوصاً لكتّاب ذوي شهرة، نصوصاُ وجدتها قريبة، من حيث الفئة الأدبية أو النوع، لما قد ينشره واحدنا من خواطر على حائطه، إذا اختار أن يزاول هناك غواية الكتابة. نشرت تباعاً تحت عنوان «فلانٌ لو فَسْبكَ» أقوالاً لأمثال بليز باسكال وفريدريش نيتشه ومارك توين وألبير كامو وأوكتافيو باث وأميل شيوران… وكنت أعرف أن في وسعي أن أبدأ الاستنساب من نصوصٍ ضاربة في القِدم: من «النُتَف» التي وصلت إلينا من أغارقة سابقين لسقراط: من هرقليطس مثلاً. وكنت أعرف أن في وسعي أن أواصل هذه التخيّرات بلا نهاية تقريباً. على أن باسكال كان أوّل من استوقفني. فإن كتابه «الأفكار» له مظهرُ كتاب الخواطر. فهو مكوّن من نصوص قصيرة متنوّعة الهموم لا يظهر لها للوهلة الأولى موضوع واحد، ولكن تفحّص هذه الحالة عن كثب يظهر أن باسكال، إن كان له أن يدْرَج في فئةٍ من الفسابكة، فهو أقرب إلى فئة «المناضلين» أو «الناشطين» الذين قد تتنوع الموضوعات الجزئية لما يتتالى من خواطرهم، ولكن ينتظمها موضوع عامّ أو همّ جامع واحد. وذاك أن كتاب باسكال كتاب غير منجز وأن هذا ـ وليس الافتقار إلى موضوعٍ واحد ـ هو السبب في التشتت الظاهر لفقراته. ويعرف محقّقو الكتاب هذا الأمر ويعرفون المدار العامّ للكتاب، فيختلف ترتيب «الأفكار» بين الطبعات وفقاً لتقدير كلّ محقّق للتصميم الذي كان باسكال سيعتمده لمؤلَّفه لو أتيح له أن يبلغ من تأليفه نهاية المطاف.
عليه رأيت أن ما جاء به مارك توين من خواطر متفرّقة، هجائية المنحى، هو، على الأرجح، أقرب ما يمكن اعتماده نموذجاً مثالياً لما يُنتظر من الكتّاب السابقين لعهد الفيسبوك لو أنهم «فَسْبكوا». ولا يعني هذا الاستقراب لتوين تنحية سواه. فإن «دفاتر» كامو التي لم يكن أعدّها للنشر ونُشرت بعد رحيله هي مدوّنات خواطر بالمعنى الأدقّ. يحمل صاحب القلم قلماً ودفتراً ويدوّن ما «يخطر» له لترجيحه أن الخاطرة ستتلاشى وتغور إذا هي لم تدوّن. وقد تستعاد الخاطرة في عملٍ لاحق وقد لا تستعاد. فوجودها في «الدفتر» وجود ذخيرة واحتياط… ذاك ما هي عليه خواطر كامو في «الدفاتر». فيها شيء من «فورية» المادّة الفيسبوكية، بل إن طابع «المسوّدة» الذي يطبع بعضها قد يجعلها أكثر فورية من خواطر يدفع بها كاتب لا ينسى «جمهوره» إلى جدار الفيسبوك بعد أن يوفّيها ما يجده حقّاً لها من العمل أي بعد أن يحيلها، على وجه التحديد، إلى «مبيّضة».
وتغري حالة كامو بتلمّس صلةٍ ما بين الخواطر واليوميّات. لا يلزمك الفيسبوك بالانتظام الذي يميل إليه من يقتني دفتراً لتدوين يوميّاته. ومع أن الفيسبوكي قريب جدّاً من الانفعال بالحوادث والتعليق عليها فإن الخواطر، من حيث الأساس، أقرب إلى السيرة الداخلية: إلى سيرة الخاطر السارح بين الأوقات والشواغل، على اختلافها، منها إلى القبض على الحدث الشخصي أو العام وحفظ معالمه ومعها الانفعال به في كلام مكتوب. الخاطرة لا تعالج، بالضرورة، ما يحدث وإن يكن هذا محتملاً جدّاً، تعالج ما يخطر، هي نفسها حدثٌ.
وإذ التمست في تراث العربية أشياءً تشبه ما أفترضه نموذجاً فيسبوكياً للخاطرة، وقعتُ على قطبين لا يطابق أيّ منهما هذا النموذج ولكن يمثّل حدّاً له. أوّل القطبين «الحكمة»، نثراً كانت أم شعراً: لقُسّ بن ساعدة كانت أم لعليّ بن أبي طالب، لأبي العلاء المعرّي أم لأبي العتاهية… وثاني القطبين «النادرة» وهذه قد تكون واحداً من أخبار نصر الدين خوجة المعروف بجحا وقد تكون من المنسوب إلى شعراء أو أدباء، إلى خلفاءٍ أو وزراء، إلى غلمانٍ أو إماء… من طريف الأقوال والأفعال، تضمّ معظمه تآليف مختصّة بهذا النوع. وأما الخاطرة الفيسبوكية فلا هي حكمة، على وجه الدقّة، ولا نادرة، بل يسعنا تخيّلها شاردةً في المساحة المعتبرة الممتدّة بين هذين النوعين: في المساحة بين جحا وقُسّ.
وما تكسبه الخاطرة من انتمائها إلى الفيسبوك وإلى وجوه التفلّت فيه ووجوه الإلزام عميمٌ وعميق. ما أشرنا إليه من علاقة ينشئها الفيسبوك بين الخاطر والزمن مؤدّاه أن ما يُعرض على الفيسبوك عابرٌ بلا إبطاء، محكوم بسرعة الزوال… وهذه صفة تلحق به إلى موقف صاحبه منه أيضاً. يتوجّه المفسبِك إلى جمهورٍ ضيّق أو واسع يعرف شيئاً من ملامحه ومطالبه. وهو ـ أي المفسبِك ـ لا يعطى، في العادة، مهلة بين جهوز المادة ونشرها. غير أنه لا يجد نفسه ملزماً بمتابعة حديث كان قد بدأه قبل ساعة ولا بالبقاء على سويّةٍ للتأمّل كان قد اتّخذها لنفسه أمس. ولا هو يشعر بحرج من التنقّل بين غثّ الموضوعات وسمينها، إلخ.
في هذا كلّه لعبٌ محتمل تغري به حرّية الحركة، وفيه أيضاً تواضعٌ تلزم به سرعة الزوال. على أن اللعب ههنا لا ينفعه أن تُزعم له تلقائية ليست له. التلقائية لا تعدو لحظة بزوغ الخاطرة. عليك بعدها الانكباب على العمل، فإذا استُعيدت، في آخر المطاف، تلقائيةٌ ما فلأن للعمل، بما هو اجتراحٌ لتكتيكٍ واعتمادٌ له، أن يدّعي لنفسه القدرة على استرداد التلقائية أو على تحصيلها في ما لا يسع التلقائية أن تزعم الاستغناء عنه.
وإذ عمَدتُ إلى جمع فيسبكاتي مرّتين تباعاً في كتاب، رغبتُ في إظهار هذا كلّه. وقد كنت أتكلّف لإظهاره خيانتين: خيانةَ العابر بغية إبرازه بالتضادّ، وذلك بإدراج الخواطر في شريط (هو الكتاب) يبدو ثابتاً… وخيانةَ الفيسبوك كلّه، بما هو لغطٌ كونيّ، لإظهاره بالتضادّ أيضاً مع نصيبٍ شخصي من اللغط أحاول إلزامَه، لا بالانتماء إلى الأدب بعمومه وحسب، بل أيضاً باقتراح نوعٍ أدبي ينشأ من الحوار بين عمل الخاطر وبيئة الفيسبوك. رغبتُ أخيراً في إظهار سياقٍ يبقى مترائياً خلف الشتات الظاهر للخواطر المشغولة هو سياق الأسلوب أو سياق الشخص نفسه، ألم يقل صاحبنا ذاك أن «الأسلوب هو الإنسان عينه»؟
_________
*القدس العربي