*بسمة النسور
عبر الهاتف، تلحّ صديقتي المقيمة في بريطانيا، والتي تتصف بنزعة رومانسية، وتجنح إلى المبالغة في ردود أفعالها: اكتبي لي بالتفصيل غير الممل عن كل ما يحدث في غيابي. وكلما تواصلنا، تبادرني قائلة: شو الأخبار عندك؟ تنتابني الحيرة، ذلك أنني أعرف أنها لا تقصد الرغبة في معرفة أخبار الوطن الرسمية في وسائل الإعلام، فهي، شأن معظم المغتربين، تتابع الصحافة المحلية والمواقع الإلكترونية عبر الإنترنت بدأب، وتقف على آخر المستجدات، أولاً بأول. تفعل ذلك طقساً يومياً، تحتال به على الغربة وأوجاعها، على الرغم من استقرار الحال بها هناك، من حيث ظروف العمل والسكن والعلاقات الاجتماعية المعقولة نسبياً، وعلى الرغم من حصولها على الامتيازات الممنوحة لأي مواطن يحمل الجنسية البريطانية، وكذلك انخراطها الكثيف في نشاطات تطوعية، نصرة لفلسطين عبر مؤسسات مدنية، غير أنها تؤكد دائماً أن لا شيء بمقدوره أن يحدّ من حنينها غير القابل للتداوي إلى صباحات مدينتها الأم، عمان، حتى تلك البحيرات المجاورة الساحرة بأزرقها الفيروزي الأخّاذ، المأهولة بأسراب البجع، تباشر فجرها الندي، كعرائس مختالة بناصع البياض، يزيد أجسادها الممشوقة فتنةً وسموّاً.
لا تحول دون أشواق صديقتي المشتعلة تلك الغابات المعمّرة داكنة الخضرة المكتظة بشتى فصائل الطيور التي لا تكف عن الزقزقة بشغف، احتفالاً بالرزق الوفير، ولا تواسيها الشوارع النظيفة المنظمة، بأرصفتها الفسيحة التي تحترم حق الإنسان البسيط والبديهي في التجوال حراً طليقاً، إلى جانب مشاةٍ يمارسون رياضتهم الصباحية، مطمئنين إلى مصيرهم في عودة آمنة إلى بيوتهم، من دون أن تكون أضلاعهم عرضة للكسر تحت عجلات سيارة سائق طائش، ولا تهدهد روحها القلقة المسكونة بالشوق حبات المطر السخي، المباغت في انهماره، يعرقل المواعيد أحياناً، غير أنه يغسل أوجاع الروح المتعبة، ولا ترشوها حالة السكينة والهدوء الذي يكتنف محيط البناية التي تقطن فيها، حيث جيران منهمكون بشؤونهم حد عدم الاكتراث، أو حتى الفضول.
تقول الصديقة، من عمق غربتها، إن كل تلك المزايا التي تتيحها الحياة في أوروبا لا تعادل لديها مشواراً في يوم عمّاني، شمسه مفرطة الحنان، إلى وسط البلد، تهبط هناك في عز (العجقة)، حيث الحياة خشنة جارحة صاخبة ضاجة فوضوية حيوية. تخترق أسماعها أبواق سيارات لسواقين نزقين حانقين على الإشارة الضوئية البليدة التي تستمهل الاخضرار، تنعش قلبها روائح بهارات نفّاذة تنبعث من محلات العطارين، بهيجة الألوان، تتوقف قليلاً عند بسطات مرتجلة قيد المطاردة لباعة صغار يقتنصون لقمة العيش مغمّسة بالضنك، وتذهب إلى زيارة تفقدية إلى كشك (أبو علي)، بحثاً عن كتاب تم منعه، وتحتسي فنجان قهوة قليلة السكر بصحبة الرجل الأكثر شهرة في قلب عمان، فيما صبية حالمة تقلّب على استحياء ديواناً قديماً لمحمود درويش، وتهمس لصديقتها أنها ستظل تحبه مهما مات. طبق كنافة خشنة بالقطر كثيف الحلاوة، تتناوله واقفة في الزقاق أمام محل حبيبه. سعيدة بوجودها الأليف بين أهلها وناسها.
وغالباً ما يأتيها ردي متوقعاً، مثيراً للخيبة والحنق، فتتهمني بالبرود وبقلة إدراك قسوة الإحساس بالغربة، حين أقول، من دون أي محاولة ادعاء أو تزويق: لا جديد، يا صديقتي الدرامية. كل شيء على (حطة إيدك). روتين وملل ووحشة وخيبة متعددة الوجوه عابرة للأيام. يخطر لي أن أقول لها الآن: أيتها الحبيبة المصابة الأبدية بالحنين: ليس بالضرورة أن نبارح أماكننا الحبيبة المألوفة، أو نرحل إلى بلاد نائية باردة موحشة، كي يكتسح صقيع الغربة أرواحنا، لأن ذلك يحدث كثيراً، وبسهولة بالغة، لأسباب محلية جداً.
_____
*العرب الجديد