*د. حسن مدن
لا يتنبه الإنسان إلى قوة عاداته وسطوتها، إلا في اللحظة التي يختل فيها نظام هذه العادات. وهذه الأخيرة من الاتساع بحيث تشمل العادات اليومية المكررة، كالمواعيد الثابتة للأكل وللنوم وللاستيقاظ، وموعد شرب القهوة، مثلما تشمل ما هو أعمق من ذلك بكثير كأسلوب التفكير وطريقة التصرف إزاء الأمور. العادة، أو مألوف التصرف مريح أو غير متعب ولا يتطلب جهداً، لأنه يشبه إلى حد كير الأداء الآلي. ألبرتو مورافيا كتب في «الاحتقار»، إحدى رواياته المعروفة كلاماً مهماً عما دعاه الآلية التي تتيح لنا أن نعيش بلا تعب يتجاوز الحد، لأننا إذ نقوم بالأمور الاعتيادية وبصورة روتينية فإننا غالباً ما نفعل ذلك دون تفكير أو لا نكون واعين لما نفعل.
«إن خطوة واحدة – يقول مورافيا – تتطلب تشغيل كمية من العضلات، ومع ذلك فنحن نقوم بها من غير أن نعي ذلك، بفضل الآلية». والظاهر أن المرء لا يبدأ في حساب خطواته إلا في اللحظة التي يعي فيها هذه الخطوات، في اللحظة التي تكف فيها الآلية السابقة عن الدوران، فتجد أن الكثير من الأشياء التي كنت تقوم بها بطيب خاطر تستوقفك وتسترعي انتباهك وتثير في ذهنك الأسئلة عن مغزاها، وتمثل تفاصيلها أمام ناظريك فتستأثر بتفكيرك، وربما حملتك على التساؤل كيف كنت تأتي هذه الأشياء سابقاً دون أن يستوقفك السؤال عن سر قدرتك على القيام بكل ذلك دون أن تشعر بأنك تبذل جهداً.
في المعرفة يجري الحديث عن «قوة العادة» بوصفها كابحاً لتطور هذه المعرفة، لأن الانسياق وراء المسلمات والبديهيات وما استقر عليه المرء يجعل أداءه سهلاً ومريحاً وغير مكلف، لكن تجاوز المسلمات أو مناقشتها أو الشك بها هو الذي يسبب القلق وارتباك السلوك. وتدل التجربة أن مثل هذا التجاوز لقوة العادة غالباً ما يكون نظرياً، أو لنقل أنه محاولة للتجاوز وليس تجاوزاً فعلياً، فالمحاولة قابلة للتعثر ولا بد من تكرارها ليصار إلى إتيانها بالصورة الأمثل ولا نقول المثلى. وكثيراً ما نقرأ ونسمع ونشاهد مظاهر على ما أصبح يعرف بازدواجية المثقفين، الذين يبدون، حين يتعلق الأمر بالخطاب العلني، متجاوزين للعديد من الأفكار والأفعال التي يعدونها بالية، ويبدون شديدي الحماس للآراء والأفكار الجديدة التي اكتسبوها من صلتهم بالفكر واستنشاقهم لهواء العصر، ولكنهم، حين يتصل الأمر بالممارسة يبدون أبعد ما يكونون عن الأفكار التي يجهرون بها. ولهذا الأمر بالذات صلة بسطوة العادة السابقة؛ لأن هؤلاء الناس غير قادرين، حتى لو أرادوا، على الانسلاخ الفوري عن مؤثرات تكوينهم الأولي، وثمة ألوف من الخيوط المرئية وغير المرئية التي تشدهم إلى هذه المؤثرات وتحد من انطلاقهم الحر، الفعلي.
في مكان ما يقول كارل ماركس أن دلالة إتقان المرء لأي لغة أجنبية يتعلمها هو أن يفكر بهذه اللغة حين يتكلم بها لا بلغته الأم، وحال الإنسان القادر على تخطي تجاوز مصادر ازدواجيته هو حال من أتقن لغة أجنبية فصار يفكر عبرها حين يتكلم بها، وهذا كما نعلم يتطلب مراناً وتدريباً طويل الأمد.يوجد تشابك غامض وغريب وغير محدد بين العادة، أو التعود، وبين الحب. وهذا التشابك يمكن أن يثير نقاشاً متعدد المستويات ويطرح أسئلة مختلفة من نوع: هل التعود هو مظهر من مظاهر الحب، أو هل هو الحب نفسه ولكن دون تصريح معلن، أم أن الحب عاطفة أخرى مختلفة تماماً أكثر عمقاً ونضجاً من التعود، هل يمكن أن نتعود على شخص ما دون أن نحبه، أو أن التعود هو بداية الحب أو المدخل إليه.
وثمة سؤال آخر أيضاً: ماذا يبقى بعد ذهاب الحب، أليست العادة، أو التعود، هي ما يجمع بين المحبين سابقاً وقد انطفأت جذوة الحب، أو على الأقل علاها الرماد.. ويمكن الاستطراد في الأسئلة: كيف نفسر ذلك الشعور الغريب الذي ينتابنا حين يختل نظام العادة عندنا، لو حصل أن الشخص الذي اعتدنا رؤيته أو محادثته غاب عنا لهذا السبب أو ذاك، ثم كيف تفسر ذلك اللطف الشديد، والصادق بالتأكيد، حين تقول لشخص ما: لقد تعودت عليك، للدرجة التي تجعلك توشك أن تقول: أنني أحبك، ولنذهب أكثر فنتساءل عن السبب الغامض والمحير الذي يجعلنا نقول لشخص: أخاف أن أتعود عليك، كأنك تقول له: أخشى أن أقع في حبك، كأن الناس موقنة إن التعود ينطوي ضمناً على عاطفة، على شعور صادق حتى لم يتبلور بعد في صيغة حبٍ معلنٍ.
نظن أن هناك مساحة مشتركة، واسعة، بين التعود والحب، ويبدو إن التعود ينشأ بحكم أسباب مشابهة لتلك التي ينشأ بها الحب. وعلى خلاف الحب العاصف، الذي ينشأ من أول نظرة كما يقال، فإن الحب الذي يسفر عن التعود يبدو أقوى جذوراً وأعمق محتوى. إن التعود لا ينشأ عبثاً أو دونما مغزى؛ لأننا نحتك في الحياة بأشخاص كثيرين، لكننا نتعود على واحد بالذات، على مفرد لا على مجموع، وهذا التعود ينشأ من تلاقٍ معين في النفسية، من تقارب روحي ومعنوي، من انشداد إلى خصال معين في هذا الشخص. وبالتعود على رؤية هذا الشخص أو سماع صوته ينشأ شيء أشبه بنظام العادة الصارم الذي ما أن يختل في أحد مواضعه حتى ترتبك أمورنا ونحس بالخلل والتشتت وبأن ثمة أمر ناقص، مفتقد.
ثمة عبارة موحية في رواية «ممثلو الكوميديا» لجراهام غرين مفادها التالي: «في حياة معظم البشر لحظة يمكن أن نسميها نقطة اللاعودة، ولكن أكثر الناس لا يستطيعون أن يلحظوها في حينها». ورغم أن فكرة «غرين» هذه جاءت في سياق آخر غير السياق الذي نحن بصدده هنا، لكنها تفتح الذهن على حقيقة أن التعود على شخص يمكن أن يتطور ويتعمق حتى يتوغل في أدق ثنايا الروح، دون أن ننتبه إلى المبلغ الذي بلغته الأمور؛ لأننا في الغالب نمارسها بكل عفوية وتلقائية، في استجابة غالباً ما تكون غير واعية لحاجة نفسية أو روحية يحققها هذا التواصل، إننا لا نكتشف هذا المستوى إلا عندما تصدمنا الحياة بأحد اختباراتها المتكررة، فندرك حينها إننا قد بلغنا مرحلة «اللاعودة» التي أشار إليها جراهام جرين. والغريب أن اللحظة التي بلغنا فيها هذه المرحلة تكون قد مرت دون أن ننتبه لها أو نحس بها. وليس مهماً بعد ذاك أن نسمي هذا تعوداً أو حباً، لأننا نكون في الحقيقة قد وقعنا في أسر الشخص الذي خطف اهتمامنا، وتوغل إلى أعماق روحنا ونحن فيما يشبه الغفلة.
الغفلة نقيض الانتباه، من ذلك أن يباغتك أمر كنت تجهل وجوده أو قرب حدوثه، حين تكون مطمئنا إلى أن الأمور تسير وفق إيقاعها المعتاد،المتكرر، الخالي من الانعطافات، فتركن إلى اليقين أن الأمور باقية على هذا المنوال دائماً.لكنك تفاجأ ذات غفلة بما يكسر العادة ويخرق المسار الطبيعي لحياتك فيهتز النسق المعتاد بحدث معين لم يكن في الاعتبار، لم تخطط له ولم يرد في هواجسك يوماً. صحيح أنك لا تستطيع أن تجزم ما إذا كان هذا الحدث قد تفاعل في الزوايا الخفية من الحلم المستقرة في نفسك، أو انه قد حدث بمحض المصادفة البحتة ولكنك لن تنجو من الشعور بالمباغتة به. يحث ذلك، مثلاً، حين تشب فرحة خضراء في النفس الضجرة، أو أن تنهض أشواقك فجأة، أو حين تستعيد طاقة روحك التي كان الإيقاع الواحد قد أطفأها كجمر قد بنى عليه الرماد، فتهب نسمة هواء تعيد إليه توهجه واتقاده. يحدث ذات غفلة أيضاً أن تكتشف في أحدٍ تعرفه منذ زمن بعيد ما يُدهشك فيه من خبايا لم تلحظها قبل ذلك، أو أن ترى في الأمور والأحوال التي تعرف أشياء مغايرة كانت بعيدة عن ناظريك فيغير هذا الاكتشاف مسار حياتك كلية. ويحدث ذات غفلة أن تشعر بأن السنوات مرت، حين تقف أمام تاريخٍ ينبهك إلى أن الزمن يسير أسرع مما تتوقع، وان تفاجأ بان كثيراً من أحلامك ما زالت أحلاماً.
قد يسعدك أن الحلم مازال متقداً داخلك، وقد يحزنك انك لم تحقق الكثير مما عقدت العزم على تحقيقه.
ويحدث ذات غفلة أن تصحو على حقيقة أنك كنت ضحية، وهم كبير ويؤلمك أن الأوان قد فات لتلافي ما جره ذلك من تضحيات وأحزان وتوترات. والأدهى من هذا وذاك أن تكتشف ذات ليلة بأنك عشت سنوات طويلة حياة لم تخترها بمحض إرادتك وان الظروف وحدها هي من حدد مسار هذه الحياة التي وجدت نفسك أسيراً لها. عزاؤك الوحيد أن تنشا في داخلك ثورة عارمة وينبعث تمرد داخلي مفعم بالشجاعة للتحرر من القيود التي شلت طموحاتك وأشواقك.
ما مقدار الغفلة وما مقدار الانتباه في حياتنا، أين الواعي من قراراتنا التي نتخذها وخطواتنا التي نخطوها، مدركين ما نحن ذاهبين إليه، ومحددين للهدف والوجهة، وأين تلك المسارات التي تأخذنا إليها الحياة، دون أن تستشيرنا في أمرها، فنجد أنفسنا منقادين إليها، بقوة الدفع التلقائية التي لا يد لنا فيها، أو لأن حزمة من المصادفات الخارجة عن إرادتنا في الغالب حددت هذه المسارات، على غفلة منا. فوجدنا أنفسنا في مواقع اختارتها لنا الحياة، ولم نخترها أنفسنا.
_______
*جريدة عُمان