خوان بوش */ترجمة: ميار كرم (مصر) * *
خاص ( ثقافات )
الطريق ميت، لا أحد ولا شيء سيبعثه من جديد، طويل بشكل لا متناهي دون أثر للحياة على سطحه الرمادي. أماتته الشمس، الشمس الحارقة ذات اللون الأحمر المتوهّج، الأحمر الذي صار أبيض ثم تغيّر الأبيض القاسي إلى شفّاف، ليستمرّ هناك على ظهر الطريق.
يبدو أن قرونًا طويلة مضت على موته. ظهر إلى الوجود بفضل سواعد رجال، عدّتهم معاول ورفوش، كانوا يغنّون ويحفرون، بالرّغم من كون البعض منهم، لم يفعلوا أي شيء. كان هذا منذ زمن طويل. يظهر أنّهم قدموا من أماكن بعيدة: يعرقون ويضرطون. وعند المساء يكون الفولاذ الأبيض قد صار أحمر. حينها تتراقص في أحداق الرجال الذين اشتغلوا على الطريق شعلة نار صغيرة.
يخترق الطريق الميت حقولاً للسابانا وتلال، في حين تعفره الرياح بغبار يموت بدوره ليترسّب على قشرته الرّمادية.
على الجانبين، توجد أشجار شائكة طويلة تتعب العين في ملاحقتها. لكن السهول كانت جرداء، من بعيد شجيرات الحلفاء. وربما تلوح طيور كاسرة تكلل نبات الصبّار، الذي يظهر بعيداً وقد انغرس في الأرض الفولاذية البيضاء.
هناك أيضا أكواخ طينية، جلّها قصيرة، بعضها مصبوغ باللون الأبيض ولا يمكن رؤيتها تحت أشعة الشّمس، يظهر منها فقط سقفها السميك، الجافّ المتلهّف للاحتراق يوما بعد يوم. كانت هذه الأسقف نتاجاً لتراكم الأعشاب التي تمنع الماء منعا باتّا من النفاذ.
الطريق ميت، الميت كليا، ينجلي بارزاً، شاحبا. بدت المرأة أول الأمر، كنقطة سوداء ثم كقطعة حجر تُركت على مومياء طويلة. كانت مطروحة هناك دون أن يُحرك النسيم أسمالها. لم تؤلمها لفحات الشّمس الحارقة بل صرخات الصّبي. صبيّ في لون البرونز، ذو عينين صغيرتين مشعّتين، كان يمسك بوالدته في محاولة لجذبها بيديه الصغيرتين. عمّا قريب ستحرق حرارة الطريق الجسد، على الأقل ركبتا ذاك الطفل العاري والكثير الصراخ.
كان البيت هناك، قريبا، لكن لا يمكن لأحد رؤيته.
كلما تقدم “كيكو” إلى الأمام، كان ذلك الشيء الذي يبدو كقطعة الحجر، الملقاة وسط الطريق الميت، يكبر. قال: “هو بدون شك عِجْلٌ صدمته سيارة”
مدّ بصره: السهل وحقل السابانا وتل بعيد تنمو به أشجار الحلفاء، يبدو كجبل صغير تكدست عليه الرّمال بسبب الرياح. ومجرى نهر جفت أرضه التي يبدو أنها كانت تنعم بالمياه قبل ألف سنة خلت. مدّ بصره: فبدا السهل الذهبي وقد تصدّع تحت ثقل الفولاذ، ونبات الصبار متوجا بالطيور الكاسرة.
لما اقترب “كيكو” كثيرا، رأى أنها امرأة، وقد ميز جيّداً صرخات الصبي.
كان الزوج قد عنّفها للتّو، ولاحقها عبر الغرفة الوحيدة بالكوخ الساخن كفُرْن، يجرّها من شعرها ويدقّ رأسها بلكماته.
-يا بنت السوء، سأقتلك ككلبة، يا عديمة الحياء.
-لكن لم يمر أحد يا “شيبي”، لم يمُر أحد. قالت وهي تحاول شرح الوضع.
-حقا!! حسنا سوف ترين الآن.
وعاد إلى ضربها.
جرّ الطفل ساقا والده، لم يجد الكلام بعد، في محاولة لإبعاده. رأى المرأة تنزف من أنفها. لم يخفه منظر الدم، فقط كانت تجتاحه رغبة في البكاء والصراخ بشدة. كان يعتقد أن أُمّه ستموت لو تواصل النزيف.
السّبب في كلّ ما حصل، هو أن المرأة لم تبع لبن الماعز كما أمرها الزوج، ولدى عودته من التلال بعد أربعة أيام، لم يجد المال. أخبرته أن اللبن قد انقطع والحقيقة أن الطفل قد شربه. فقد فضلت ألا تمتلك أي نقود حتى لا يهلك الطفل جوعاً.
ثم أخبرها فيما بعد أن تغادر هي وابنها.
-سأقتلك إذا عُدت إلى هذا البيت!
كانت المرأة ملقاة على الأرض، وهي تنزف بشدّة ولا تسمع شيئا. قام “شيبي” المهتاج بجرّها حتى قارعة الطريق وتركها هناك كالميتة على ظهر مومياء ضخمة.
كان ما يتوفر عليه “كيكو” من الماء يكفي ليومين آخرين على الطريق، لكنه استهلكها في رش جبين المرأة. أخذها إلى الكوخ وهي تتكئ على ذراعه وهو يفكّر في تمزيق قمصيه المخطّط لتنظيفها من الدماء.
دخل “شيبي” إلى الفناء.
-قلت بأني لا أريدك هنا مجدّداً أيتها المذنبة.
يبدو أنه لم ينتبه إلى وجود الغريب، لقد تحول إلى وحش، شعره مشعث ومقلتاه تقدحان شرراً.
قام “كيكو” بلفت نظره، لكنه كان نصف مجنون، هدّد مجدّداً ضحيته وكان على وشك ضربها، حينها وقعت المشادّة بين الرجلين.
عاد الطفل للصراخ وقد التفّ بتنورة والدته.
كان الصّراع مثل أغنية صامتة. لم ينبسا بحرف، ولا شيء يُسمع سوى صرخات الطفل واللّكمات العنيفة.
شاهدت المرأة كيف خنق “كيكو” زوجها “شيبي”،وأصابعه منغرزة في عنقه، وقد بدأت عيناه تنغلقان وفمه مفتوح الدّم يحتقن في وجهه.
لم تكن تدري ما ستفعل حيال الوضع، لكن بالقرب من الباب استقرت قطعة حجر صلدة، ثقيلة، تميل إلى السّواد. أحسّت المرأة بقوة خارقة نمت بداخلها، التقطت الحجر وسدّدته. كان الضربة قوية بلا صدى.
أفلت “كيكو” عنق غريمه ثم انطوى على ركبتيه وفتح ذراعيه على مصراعيهما وسقط على ظهره دون شكوى ودون أي جهد.
امتصّت أرضية الكوخ دماءه الحمراء القانية والغزيرة، ورأى “شيبي” الضوء يلمع فوقها.
كانت يدا المرأة ترتعشان وهما تغطّيان وجهها، شعرها متناثر وعيناها جاحظتان تريدان ترك محجريهما.
جرت، أحسّت بالوهن يغزو مفاصلها، أرادت إن كان أحد قد جاء، لكن على الطريق الميت، الميت تماماً، لم تكن هناك سوى الشمس التي قتلته. وهناك عند نهاية السهل تلوح التلّة التي كدّستها الرياح بالرمال وأشجار الصبار المنغرزة في الأرض الفولاذية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*خوان بوش (1901-2001) : كاتب ومؤرخ ومفكر وسياسي من جمهورية الدومينكان.
* *خريجة لغة إسبانية من كلية الآداب جامعة حلوان.