نكهة “البستاشيو”
زينب_السعود
كان السائل الأخضر اللزج ينساب متدفقا فوق الكعكة الصغيرة . ذوقٌ ما فرض هذا السائل غريب اللون ليتصدر قائمة الطعام المترف .هاتفتني داليا منذ الصباح تطلب كعكة (بصوص البستاشيو) وأرسلت صورا توضيحية اقتصتها من حسابات تكتوكية حتى لا أحيد عن رغبتها فأستبدلها – جهلا مني – بكعكة أخرى .
سألت الموظف المنهمك بوضع لمساته الأخيرة على الكعكة عن مكونات السائل الأخضر فأجاب بابتسامة معلبة : (البستاشيو) .
وما هو ؟ تساءلت .
قال دون أن ينظر إلي : الفستق الحلبي . استعنت بابتسامة ماكرة أخبئها لمواقف تحتاج أن أبدو عبيطا أو مغفلا : وهل هو فعلا مصنوع من الفستق؟ أقصد الفستق سعره مرتفع فهل يستخدم بهذه السهولة لعمل كميات كبيرة من المعجون الأخضر الذي اكتسح أطعمتنا فجأة؟
استبدل الموظف ابتسامته المعلبة بأخرى حقيقية وقال هامسا: إذا اخبرتك الحقيقة هل ستتوقف عن شراء كعكاتنا ؟ أخبرته أن شراء الكعكات متوقف على رغبة ابنتي ولا أعتقد أنها ستقلع قريبا عن طلباتها النابعة من تأثرها بوسائل التواصل الاجتماعي . اقترب مني وقال بصوت منخفض: أظنه مصنوع من بودرة البازيلاء المجففة ، وغمز بعينه وهو يقول : المنكهات الصناعية تجعل البازيلاء فستقا. رددت على كلامه بابتسامة باهتة على نغمة صدرت من هاتفي تنبئ أن عملية اقتطاع ثمن الكعكة الفاخرة من بطاقتي النقدية قد تم بنجاح. خرجت باتجاه سيارتي أحمل الكعكة الغارقة بوحل الفستق المغشوش . هل أخبر داليا بما قاله الموظف ؟ قررت أن أفعل ما أن خطر السؤال في ذهني لعلها تشعر بالقرف وتكف عن ملاحقة ( ترندات التيكتوك ) التي تستنزف جيبي . في يوم ما علي أن أخبرها أن تكف عن ابتزازي عاطفيا لأنها ابنتي الوحيدة ، حدثت نفسي وأنا في الطريق إلى المنزل .
ما أن بدأت عجلات السيارة تنهب الأسفلت حتى باغتتني اللوحات الإعلانية بدعوات للاستمتاع بمذاق ( البستاشيو) الفاخر. تتجسس علي هذه اللوحات الالكترونية ! هل يعقل ؟ ربما كانت موصولة بشريحة النانو التي قالوا أنها دخلت أجسادنا عبر لقاح الكورونا .ابتسمت من الفكرة ولكن ما الذي جعل إعلانات الشارع فجأة تتحول إلى الحديث عن نكهة (البستاشيو) ؟ المثلجات والحلويات والعصائر والمخبوزات كلها صارت بهذه النكهة التي غزت كوكبنا كأنها من الفضاء الذي زرعت الأفلام الأمريكية في أذهاننا أن سكانه خضر. إذن هل لأمريكا يد في هذا الغزو (البيستاشيوي )على حياتنا ؟ طار السؤال من رأسي وأنا أترجل من السيارة متجها إلى المنزل. سارعت داليا إلى استقبالي وسؤالي عن الكعكة التي طلبتها ، طمأنتها بأن ما تراه محمولا على يدي ليس ديوانا للمتنبي .ضحكت بفرح لم أستطع تحديد سببه ، هل تتذوق ابنتي النكات الأدبية كما تتذوق هذه النكهات المزيفة التي تجبرني على ابتياعها . قلت لها أن الموظف أخبرني أن (البستاشيو) مغشوش وأنه مسحوق البازيلاء المجفف .. لم تتركني أكمل المعلومة الهامة التي قررت أن أصدمها بها لتكون أكثر حذرا في اختيار ما يدخل أمعاءها ، قالت وقد انفجرت ضاحكة : بابا لا يهم ، المهم الصورة .لم أفهم أو حاولت أن لا أفهم وانسحبت من حوار أعرف مسبقا أنني خاسر فيه .
في المساء هاتفني رئيس تحرير الصحيفة التي أعمل بها ، طلب مقالا نجامل به الوزير الجديد ، هكذا دون مقدمات أو تحفظات ، تاركا مساحة من الصمت لاعتراضي الذي يعرفه مسبقا ورفضي لتجيير قلمي لصالح أي مسؤول . كانت العلاقة بيننا متوترة بسبب عدم رضوخي التام لطلبات المجاملة التي أمقتها ، فمنذ عملي في الصحافة آليت على قلمي أن لا يخوض في مستنقع التطبيل الكاذب ، ولكنني لا أنكر أنني رضخت في مرات قليلة لرغبة رؤسائي في العمل تحت شعارات المسايرة ومجاراة الواقع . أراد أن يقدم اعتذارا عن طلبه متعللا بأنها رغبة .. لكنني قاطعته وشلالا اخضر ينزف من حولي ويكاد يحاصرني حد الاختناق وملفا أصفر أودعته طلب سلفة على الراتب لدفع أقساط مدرسة داليا الأجنبية ، وصوت أمها يرن في ذهني مهددا : لن أضع ابنتي الوحيدة في مدارس الحكومة .
– حسنا سأكتب مقالا بنكهة (البستاشيو ). أغلقت الهاتف قبل أن اسمع رده المعتاد : المهم أن ننال الرضى .
- عن مجلة أفكار الأردنية
- زينب السعود: أديبة أردنية تعيش في الكويت
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!
