“فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”لابن رشد



*مريم بناصر


خاص ( ثقافات )

يعد كتاب”فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” من أضخم ما ألف الفيلسوف المسلم ابن رشد، حيث استحضر فيه جدلية العقل والنقل التي ظل يتخبط فيها الفكر العربي الإسلامي.
وقد أراد من خلاله الفصل بين خطابين غير متجانسين: خطاب شرعي مقام على الوحي والإيمان، وخطاب فلسفي مؤسس على الاستدلال والعقل والبرهنة.وطرح العلاقة بين الدين والمجتمع مخاطبا المتكلمين و الفقهاء خاصة الذين نهوا عن النظر العقلي في الموجودات وقاموا بتكفير الفلاسفة.
أكد ابن رشد على أن الشرع حث وأوجب النظر العقلي في الموجودات،مستدلا بقوله تعالى في سورة الحشر فاعتبروا يا أولي الألباب﴾ ،وبقوله في سورة آل عمران ﴿ويتفكرون في خلق السماوات والأرض﴾، و على أن الفلسفة ليست إلا حكمة ونظرا إلى الموجودات، وبالتالي معرفتنا بمن أوجدها وهو الله تعالى. مما يؤكد انه لا تعارض بين الفلسفة والشريعة ، وكلاهما يعتبر سبيلا للتعرف على الخالق الذي حث على وجوب استعمال النظر العقلي أو البرهان كما سبق الذكر.
وكما أوجب الشرع النظر في القياس الفقهي الذي يعتبر ضروريا للفقيه لاستنباط الأحكام الشرعية ومعرفة المقاييس الفقهية ، وجب كذلك النظر العقلي في الموجودات وهو ما يسمى “بالبرهان” ، هذا الأخير الذي لا يمكن استعماله إلا بمعرفة أنواعه وقواعده وأشكاله وأوجه الاختلاف بينه وبين باقي أنواع القياس كالقياس الجدلي، الخطابي ،المغالطي و الفقهي.
كذلك أكد على أن القياس العقلي الذي يثبت صدق نتائجه معتمدا على مقدمات صادقة أو مسلم بها كأنها صادقة ، ليس بدعة فقط لأنه لم يكن في صدر الإسلام، فالقياس الفقهي كذلك لم يكن في تلك الحقبة ، و إذا وجب استعماله فهذا يعني أنه علينا الاستعانة ممن سبقنا إليه سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، ونأخذ منه ما هو صواب ونترك ما هو مخالف له،مما يتبين أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع ،و من منع هذا فإنه منع معرفة الله تعالى.وذلك غاية البعد والجهل.
يقول ابن رشد ” ليس يجب فيما كان نافعا بطباعه وذاته أن يترك لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض” ويقصد هنا أن الفلسفة نافعة في ماهيتها، ولا يمكن تجاهلها
أو الاستغناء عنها ، والضرر ليس من جوهرها ،هو فقط عرض لحقها من قبل أناس أساؤوا فهمها،و يعزز ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم للذي أمره بسقي العسل أخاه لإسهال كان به ، فتزيد الإسهال به لما سقاه العسل وشكا ذلك إليه “صدق الله وكذب بطن أخيك.”
كما حدد طباع الناس التي تختلف في التصديق، فمنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية التي تعتمد على قياس مقدمات ظنية، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية التي تعتمد على قياس تقوم مقدماته على أساس عاطفي، ومنهم من يصدق بالبرهان. وأوضح أن الشريعة الإلهية دعت إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق والموعظة الحسنة التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم لتضمنها شريعته، وبالتالي فالنظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن ظهر اختلاف بينهما وجب تأويله.
و عن التأويل يقول: “التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز” ، فإن كان واجبا على الفقيه الذي لديه قياس ظني تأويل كثير من الأحكام الشرعية ،كان واجبا أيضا على صاحب البرهان لأن عنده قياس يقيني، وكما يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل الأشياء التي أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها لو ثبت الإجماع فيها ظنيا أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني لم يصح.
رغبة منه في إثبات إخاء الحكمة للشريعة ،ضرب ابن رشد المثل بثلاث مسائل كفر فيها الغزالي الفلاسفة المسلمين الذين حذوا حذو أمثالهم اليونانيين، كالفاربي وابن سينا ، في كتابه” تهافت الفلاسفة” ؛ مسألة قدم العالم ، قولهم أن الله لا يحيط علما بالجزئيات و مسألة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها. حيث قال: «تكفيرهم
لا بد منه في ثلاث مسائل إحديها مسألة قدم العالم وقولهم إن الجواهر كلها قديمة والثانية قولهم إن الله لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص والثالثة في إنكارهم بعث الأجساد وحشرها فهذه المسائل الثلث لا تلائم الإسلام بوجه ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء. وإنهم ذكروا ما ذكروه على سبيل المصلحة تمثيلاً لجماهير الخلق وتفهيماً وهذا هو الكفر الصراح الذي لم يعتقده أحد من فرق المسلمين. وفي غيرها من المسائل فمذهبهم قريب من مذاهب الفرق الإسلامية فأما ما عدا هذه المسائل الثلث من تصرفهم في الصفات الإلهية واعتقاد التوحيد فيها
فمذهبهم قريب من مذاهب المعتزلة ومذهبهم في تلازم الأسباب الطبيعية هو الذي صرح المعتزلة به في التولد وكذلك جميع ما نقلناه عنهم قد نطق به فريق من فرق الإسلام إلا هذه الأصول الثلث. فمن يرى تكفير أهل البدع من فرق الإسلام يكفرهم أيضاً به ومن يتوقف عن التكفير يقتصر على تكفيرهم بهذه المسائل».
فأوضح ابن رشد أن هؤلاء الفلاسفة يؤمنون بوجود الله وعبادته ، وأن مذهبهم “البرهان” يؤدي إلى معرفة الله حق المعرفة، ولم يقل الفلاسفة أن الله لا يعلم الجزئيات، بل رأوا أن الله تعالى يعلمها بطريقة سامية لا يمكننا فهمها، و الدليل على هذا أنهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في المستقبل ، وهي كلها من الجزئيات المتغيرة ، مما يعني علمه بها كما يعلم بالكليات.
أما فيما يخص قدم العالم، فقد اتفق الأشعرية والحكماء المتقدمين على أن هناك ثلاثة أصناف من الموجودات ، واتفقوا على طرفان و هما : موجود وجد من شيء غيره والزمان متقدم عليه وهو محدث ، وموجود لم يكن من شيء و لا عن شيء والزمان غير متقدم عليه ، واتفقوا على تسميته قديما وهو مدرك بالبرهان وهو الله تعالى. لكنهم اختلفوا في الصنف الثالث فهو موجود لم يكن من شيء ولا تقدمه زمان ولكنه موجود عن شيء وهو العالم بإسره ، فمنهم من سماه قديم ومنهم من سماه محدث.
ولكن ابن رشد يرى من ظاهر الشرع أنه محدث وغير منقطع، ويستدل على ذلك بقوله تعالى في سورة هود ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء﴾. أما الاختلاف في تأويل هذه المسائل، إذا كان المؤول خاطئا فهو معذور لأن الخطأ هنا اضطراري، وإن كان صادقا فهو مأجور ، كما أن العقيدة صورة نفسية بدليل أنها ليست اختيارية كالحركة مثلا.
فيما يخص مسألة ظاهر وباطن نصوص الشرع ، ذهب ابن رشد إلى أن هذه النصوص لها معنى ظاهر ومعنى باطن لطفا من الخالق بعباده ، وذلك لانقسامهم إلى برهانيين وغير برهانيين ، فالصنف الأول هم أهل للتأويل لاعتمادهم القياس العقلي في ذلك ، أما الصنف الثاني فلا يحق لهم تأويل الباطن لأنهم لا يستطيعون التصديق إلا بما هو محسوس وقابل للتخيل ، أي أنهم ليسوا أهلا له.
وقسم ابن رشد المعاني من حيث التأويل إلى أربعة : ما لا يجوز تأويله لموافقة ظاهره باطنه ، لا يجوز أن يؤوله إلا الراسخون في العلم ، وذلك عندما يكون المعنى الظاهر ليس مرادا من النص و ما لابد من تأويله و إظهار هذا التأويل للجميع ، وذلك إذا كان المعنى الظاهر رمزا لمعنى خفي ، وما يؤوله العلماء لأنفسهم وذلك إذا كان ظاهر المعنى بينا ولا يعرف مدلوله إلا بعلم بعيد و المخطئ فيها من العلماء معذور لتجاوز الأمر طاقته.
إذن فالشرع مقسم إلى مراتب حسب الإدراك لدى الناس.
فيما يخص مسألة أحوال المعاد، فقد اختلف العلماء حولها؛ حيث اعتبرها الأشعرية ظاهرة وبالتالي لا يجوز تأويلها، وقوم آخر من أهل البرهان يؤولها، ولكن يختلف الكثير في تأويلها ومنهم الغزالي. والتواب لمن أصاب والعذر لمن أخطأ في تصنيفها من العلماء، والتأويل في أحوال المعاد أو القيامة لا في وجودها،فنفي وجودها كفر والإيمان به ممكن لجميع الناس لأنه يتم بالطرق الثلاثة المذكورة. كما أكد على أن التأويل في هذه المسألة من اختصاص البرهانيين، وواجب عليهم ذكر هذا التأويل في كتب البرهان فقط وليس العكس كما فعل الغزالي وألحق الضرر بالشريعة والفلسفة معا (دون أن يقصد ذلك).
و في مسألة مقصود الشرع، فقد حدد ابن رشد أن لهذا الأخيرا مقصودا وغاية تتجلى في تعليم العلم الحق؛ وهو معرفة الله تعالى وسائر موجوداته ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي ، والعمل الحق الذي يتمثل في تجنب الأفعال التي تفيد الشقاء ، وامتثال الأفعال التي تفيد السعادة.
بما أن الشرع يشمل جميع أنواع وطرق التصديق (البرهانية،الجدلية،الخطابية)، فإن أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق وهي أربعة أصناف:
– أن تكون يقينية مع أنها خطابية أو جدلية: تؤخذ على ظاهرها وليس لها تأويل والمؤول كافر.
– أن تكون المقدمات يقينية ونتائجها مثالات للأمور التي قصد إنتاجها ،و تحتاج إلى تأويل.
– لا تكون المقدمات يقينية لكن النتائج هي التي قصد أنتاجها نفسها ،وبالتالي لا تحتاج إلى تأويل بل المقدمات التي تؤول.
– لا تكون المقدمات يقينية والنتائج مثالات لما قصد إنتاجه وتأويلها على البرهانيين واجب وعلى الجمهور إمرارها على ظاهرها.
وكل هذه التأويلات يتطرق إليها بالبرهان الذي يسلكه أهل النظر للتصديق ، وهو ما لا يصلح للجمهور و لأهل الجدل لصعوبة استخدامهم له، وبالتالي لا تتحصل لديهم ثمرات استخدامها.
لكن بعض الفرق الإسلامية من أهل النظر كالمعتزلة و الأشعرية لم يسلكوا طرق التعليم التي حددها الشرع في كتاب الله العزيز، و أولوا آيات كثيرة للجمهور، مما أدى إلى تمزيق الشرع والتفريق بين الناس ، بل والأكثر من ذلك جاءت ناقصة عن شرائط البرهان عندما تأملها أهل الخواص فكثرت البدع.
و في الختام دعا ابن رشد إلى تصحيح الأفكار الخاطئة التي أخذت عن الفلسفة، والتي أساسها أن هذه الأخيرة تؤدي إلى الكفر و الإلحاد والضلال، وذلك بسبب تأويلات الأشعرية والمعتزلة التي تبعد مذاهبها كل البعد عن الأقاويل الموضوعة في الشرع لتعليم الناس ) النصر والتنبيه على الحق( كما سبق الذكر، فالفلسفة أولا وأخيرا هي الحكمة والحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة.

المراجع:
كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”/أبي الوليد ابن رشد ،دراسة وتحقيق محمد عمارة،طبعة دار المعارف (الطبعة الثانية)
كتاب “تهافت الفلاسفة” / أبوحامد الغزالي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *