*عبد الحليم أبو دقر
خاص ( ثقافات )
هذا ما حصل لي في دمشق : استأجرت شقة في “ابن النفيس” على الشارع العام، لم تكن بعيدة عن دار خالي، كان الحصول على شقة في تلك الأيام أمراً مستحيلا، فكيف إذا كنتُ أريدها نظيفة وآمنة ؟ً! … لست أذكر أكنا في رأس السنة أم كان العيد الكبير أم العيد الصغير؟ وأصحاب الشقة أرادوا أن يكونوا حاضرين على كتابة العقد، وأن يتأكدوا أن المستأجرين عائلات ، ممكن أنهم يؤجرون شقتهم لأول مرة، أو أن لديهم مشكلة مع المكتب العقاري، أو أن هذا المكتب لم يكن مكتبهم الذي يؤجرون شقتهم عن طريقه ، لا أدري ، المهم أنني اتصلت مع شروق، طلبت منها القدوم، وتقدمتُها والحقيبة بيدي وموظف المكتب يتقدمنا وكأننا قدمنا قبل دقائق من عمان، ودخلنا إلى الشقة، كتبنا العقد ودفعت الأجرة عن أربعة أيام ، لم يرضوا بما هو أقل ، حاولت أن أدفع عن ثلاثة أيام رفضوا ، موسم والأسعار مولعة والشروط صعبة، سلمونا المفتاح واختفوا..
أبعد أن فقدت الأمل أجد نفسي في شقة رائعة نظيفة آمنة؟! كنت مشتاقاً إلى شروق، وكانت تعرف ذلك، ترى الشوق في عيني، في كل تصرفاتي، كدت أقبلها أكثر من مرة ونحن في الطريق، ولم أكن معنياً بإخفاء شوقي إليها، حتى أنني كنت سعيداً به، متلهف على اللحظة التي سأسمع فيها صوت إنطباق الباب ودوران المفتاح في ضبته وهذه من المرات النادرة التي يجتاحني فيها مثل هذا الشوق العارم في كل حياتي. أبعد التعب ، بعد فقدان الأمل، بعد شدّ الأعصاب ، واستحالة العثور على شقة أجد نفسي مع شروق؟! وأين ؟! السرير وحده كان حكاية .. بعد قليل سأمسك بتلك اللحظة المشتهاة ، استعدتها كثيراً في مخيلتي وأنا في عمان، كل شيء مهيأ الآن، الباب مغلق، المفتاح في جيبي.. منذ ثلاثة أشهر وهي تتصل وأنا أقول لها قادم قادم لا تقلقي، قادم لن أتأخر، ولا أقدم ..
تمددتُ على السرير ، انشرحت عليه، أخذتُ نفساً عميقاً، ثم عدت وأخذت نفساً عميقاً وأغمضت عيني : أريد لكل شيء أن يمشي بمنتهى الهدوء، لا أريد لشيء أن ينتهي، وأنا أنتظر من شروق أن تقترب مني ولا تقترب، فتحت عيني، رأيتها تقف مثل الصنم عند نهاية السرير : “تعالي”. ولا ترد.. تحدق فيّ، تمسك بزر قميصها ، وأي زر ؟! أخطر زر، إذا ما انفك يكشف عن نهديها ، تهم بفكه، ثم تعدل عن ذلك، قالت : مصباح ما هو مستقبل علاقتنا ؟ أتفكر بالزواج مني في يوم من الأيام ؟ .. لو أنها أحضرت سطل ماء بارد ودلقته على رأسي وأنا في ذلك السرير المهذب الودود كان أهون علي، كنت أرتجف.. اعتدلتُ، نظرت فيها، سألتها : أهذا آخر كلام ؟
فقالت : إذا كان جوابك نعم لا مشكلة، وإذا كان جوابك لا سأخرج وذنبك على جنبك، لن نلتقي أبدا.. فكدتُ أبكي.. أفلتتْ يدها عن ذلك الزر، وأمسكتْ بالزر الأول للقميص وفكته، وقالت : أأعيده أم أكمل الفك ؟ الجواب عندك.. ورأيت أنني أدخل على أهلي في عمان وأمي تلحق بي : ماذا حصل ؟! لماذا رجعت بهذه السرعة من الشام ؟! زعلك خالك ؟! …
قلتُ : أرجع إلى المكتب العقاري، أطلب أصحاب الشقة، أقول لهم: حصل طارئ، وسأغادر الليلة إلى عمان .. يخصمون أجرة ليلة، ويعيدون الباقي، يخصمون أجرة ليلتين، يقدرون وضعي، وإذا رفضوا أن يعيدوا لي أية ليرة العوض على الله، لن أنام الليلة إلا في عمان.. ورأيت أنني في الميدان أشتري فاكهة وحلو والقشطة النيئة والقشطة المغلية والقطايف العصافيري وكل الأغراض التي أوصت عليها أمي، وأغادر إلى عمان.. ثم قلت : لماذا لا أرجئ السفر إلى الغد وأنام الليلة عند خالي، نخرج، نسهر، نلعب شدة، نتعشى، نتناقش، نأكل نمورة ، روس ، فول، مدلوقة، تسقية، لبنية، عش البلبل.. مشتاق لخالي، لأولاده، لزوجته.. معقول أن أصل إلى الشام وأنزل في شقة بشارعهم وأرجع دون أن أراهم ؟! إذا رجعت الليلة إلى عمان أمي تفقد عقلها، مهما قلت لها لن تصدق، ستقول لي: طق قلبك، طلعت روحك وأنت ترتب لهذه السفرة ، زعلك خالك ؟! …نهضتُ فدفعتني شروق بيدها وإذا بي أنشرح على السرير من جديد.. سأظل أكن لهذا السرير الاحترام، كم كان لطيفاً معنا، كم كان مهذباً صموتاً مريحاً.. واستكملت شروق فك الأزرار ولم تعد لهذا الحديث أبداً.. الشيء الوحيد الجديد الذي حصل كان تلك الدمعة الكبيرة التي صارت تظهر تحت عينها اليسرى، تعلق برموشها كلما انتهينا .. دمعة نقية صافية بحجم حبة العدس التركية الكبيرة.. كانت شروق تتكلم وهي تحدق في سقف الغرفة وعلى وجها ابتسامة تأبى الاكتمال.. كانت شروق متفتحة ناضجة محلوة أنيقة متيقظة عطوفة فهمانة واعية مثقفة أميرة، كم كنتُ مشتاقاً إليها .