أنس العاقل
في الشريط التلفزيوني “صمت الذاكرة” للمغربي عبدالسلام لكلاعي تنحاز الابنة الأديبة داخل الرواية إلى شخصية الأب، لذلك يحتج الأخ على طريقة تصويرها له بعد عودته من كندا وقراءته للرواية، فهي تحمله المسؤولية لأنه كان يفكر فقط في إتمام دراسته العليا بعد حصوله على الإجازة بامتياز، ولم يحاول البحث عن عمل من أجل المساهمة في علاج الأم، لكنه يوضح لها وجهة نظره ويحمل الأب المسؤولية كاملة، لأنه لم يبع المنزل من أجل علاج الأم. هو شكل من أشكال التقعير الضمني وهو تقنية روائية يوظفها الشريط التلفزيوني الذي يستعير بها عنوان الرواية.
يلتقي الابن من جديد مع طبيبة تعيش ثقل الذاكرة التي تركت أثرها على جسدها، فقد توفي زوجها في حادث سير، بينما استمرت في التعايش مع إعاقة جسدية. يقرر الابن البحث عن الأب، وترافقه الطبيبة في رحلته، فيستعيدان معا تفاصيل قصتيهما اللتين لم تكتملا بعد، ويعيدان ترميم ذاكرتيهما من جديد.
الشريط التلفزيوني ورغم أنه يتعرض لأحداث وقعت في الماضي، لكنه لم يغرق في الاسترجاعات بشكل كبير، بل جعلها بمثابة ومضات تتخلل الأحداث التي تتطور بشكل خطي، فيتحقق تشويق مزدوج، حيث يتمظهر على مستوى الرغبة في معرفة مصير الأب من خلال تطور وتيرة الأحداث، كما يتمظهر أيضا من خلال الرغبة في معرفة السبب الذي جعل الطبيبة والابن يفترقان، ليهاجر هو إلى كندا من أجل تحضير شهادة الدكتوراه في الإنتروبولوجيا، بينما تسافر هي إلى فرنسا وتلتقي بمن ستتزوجه هناك، وعندما يعودان إلى المغرب ستكتشف خيانته لها، فتقع بينهما مشادة كلامية أثناء قيادتها للسيارة، لتقرر أن تنتحر معه من خلال السياقة بطريقة جنونية.
تحضر عوالم الموسيقى والأدب بشكل وظيفي داخل الشريط، إذ توظف الموسيقى بشكل حي في سياق الاحتفال بعيد ميلاد الطبيبة، وتستمر كذلك في الحضور أثناء استرجاعات الابن داخل الحفل لبعض تفاصيل علاقته العاطفية. أمّا عوالم الأدب فتحضر أثناء الدرس وأثناء مناقشة أحداث الرواية التي تكتبها الأديبة.
وتتميز الصورة باستغلالها للفضاءات الخارجية وتوظيفها لمصادر الضوء الطبيعي بشكل مكثف، مما يجعل المتلقي يسرح بعينيه في الأفق مع الشخصيات التي تتوسل الأمل في المستقبل الذي تلوح تباشيره من بعيد.
تميز الأداء التمثيلي في الشريط بالاقتصاد تارة، وبالتكثيف أحيانا. فإذا كان الممثل محمد الشوبي قد برع في أداء دور الأب بشكل تعبيري مكثف، فإن أداء الممثل عبداللطيف شوقي تميز بالمزج بين العفوية الحرفية، والحركية التي تتعامل بشكل سلس مع الأكسسوار، فتجعله وظيفيا داخل الأداء الدرامي.
في السياق ذاته تميزت هاجر كريكع بأدائها الهادئ والعميق في نفس الآن، الشيء الذي جعل من لحظات صمتها مع شخصية الابن صمتا عضويا. هذا دون أن ننسى الممثلة كليلة بونعيلات التي استطاعت أن تقدم شخصية أديبة تحضر فيها بعض المصداقية مقارنة بتناول شخصية الأدباء داخل الدراما المغربية، مما يبرز قدرة المخرج عبدالسلام لكلاعي على إدارة ممثليه بطريقة دقيقة مركزا على التفاصيل الخاصة بكل شخصية وتفرد عوالمها النفسية.
بقي أن نشير إلى أن شخصية الزوج لم يتحقق لها العمق الكافي أثناء الكتابة، الأمر الذي لم يسمح للممثل يونس بواب أن يستغل ملكاته التمثيلية بشكل أكبر، كما أن هناك بعضا من الهفوات البسيطة التي لا تنقص من قيمة العمل بدرجة كبيرة، كقراءة الابن لتفاصيل الكشوفات البنكية الخاصة بالأب بصوت مرتفع دون وجود مبرر درامي، ثم تكراره الحديث عن نفس التفاصيل عندما يلتقي بزوج أخته، وهذا ما يسمى بالتلفظ المزدوج الذي لا يستحب داخل لغة الدراما.
في النهاية يستعرض فيلم “صمت الذاكرة” للمخرج المغربي عبدالسلام لكلاعي بعض الأدوات التعبيرية للسينما، لينتج شريطا تلفزيونيا يجمع بين الشاعرية والعمق، دون أن يسقط في النخبوية، مما يجعل المتلقي يستعيد ذاكرته مع الشخصيات، ويحاول أن يرمم شروخها من جديد.
___
*العرب