رسائل الحلم واللجوء : بين إسطنبول وبلغراد فارق توقيت لا يدركه لاجئ


حازم درويش

منذ تخرج من إسطنبول في رحلة اللجوء الطويلة، تروح تقارن كل مدينة تدخلها. ليست مقارنة موضوعية لأجل أن تصل إلى نتيجة تجهلها، بل لتثبت لنفسك قبل اﻵخرين أنك على حق في رهانك على أن إسطنبول مدينة فريدة وعلى أحقية تعلقك بها.

تبلغ هذه المقارنة ذروتها في بلغراد، حيث نهر يشطر المدينة وجسر معلق وترام ومحطة قطار متهالكة. تتفرس المشاهد حولك وتسقط بلغراد كما شئت لها بسهولة أمام رهانك. المدينة وأهلها متعبون أكثر منك، أنت الهارب إليها من مخاوف كثيرة. وتقول لنفسك أن زادها بؤسها السوريون مثلك، المتناثرون في حدائقها فجاءوا تعباً على تعب. جلهم هنا بانتظار مدد مادي خارجي يساعدهم على متابعة الرحلة أو يلاحقون أكاذيب مهربين كثر عن رحلات قريبة في الغد أو بعده أو ما بعده وهكذا دواليك. تسويف يبدد المال والأعصاب، والجميع لا حول ولا قوة له إلا بمطاردة السحرة في الحلقة اﻷصعب والنجاة من بصمة المجر. الكل هنا في وسط بلغراد يشبهونك. لا داعي ﻷن تختفي وراء أقنعتك. ثم إنك وبعد كل هذا الذي شاهدته، هل تملك ترف ما تظنه صواباً في مقهى أو في حديقة؟
تقطع نهارات الانتظار في مقهى زبائنه من الهائمين على وجوههم مثلك، وفي الليل يكفيك أن تكون السماء مقمرة لتطمئن لكل من سبقك إلى افتراش إحدى الحدائق بخيمة ملونة أو بكيس نوم أزرق أو حتى من دونهما. لم يكن الليل يكفي الجميع للنوم فتحسبهم يتبادلون اﻷدوار حتى يأتي ليل آخر.
لا قدرة لك هنا على اجترار آلام أحد، لذا لن يعنيك إلا أن تحمي نفسك من شرور طعنات كثيرة تلقيتها في مراحل الرحلة اﻷولى ولن تصمد أمامهـــا لو تكررت اﻵن. لطالما كان العذاب والتــعب جمـــاعيين ولكنك تعلمت على هذا الدرب أن النجاة لا تكون إلا فردية. قد يســتطيع الكثيرون ضرك احتيالاً أو كذباً أو سرقة، لكن لن ينفعك أحد مهما حاول لو سقطت في نفسك، لذا تحاول ليلة أن كذب عليك مهربك مرة جديدة وسَوف في موعد السفر وتركك في ماخور سماه فندقاً مع ثلة من شباب عراقيين هاربين مثلك، تحاول ألا تغرق في خوفك من جديد. لهجة الشباب العراقيين القاسية وسلوكهم الصارم على أنفسهم قبل اﻵخرين، يدفعانك إلى زاوية بعيدة تبني فيها خيوطاً جديدة لشبكة الغربة التي تعيشها.
ما معنى أن يكون المرء غريباً إلى هذا الحد؟ أن يتمنى سماع صوت لطالما هرب منه وظن أنه مختلف عنه. يقترب مني ألطفهم وأصغرهم ويقول: «في الغرفة المجاورة شباب سوريون. اذهب واسهر معهم، ثم لا داعي لتحفظك هذا كله، وإن كنا عراقيين فنحن لن نأكلك»، وظنه أنه يلقي نكتة من طراز الفكاهة سوداء. تقود أقدامك صباح اليوم التالي بعيداً عن الوسط الذي يستوطنه اللاجئون لترى بلغراد أخرى طالعة من القرن التاسع عشر بهية ونضرة وزاخرة بمعان أنى لك أن تدركها وأنت سائح فيها مرغماً لا بإرادتك. عبثاً تحاول أن تقول لنفسك: «في إسطنبول هناك مثل هذه القصور والمباني والشوارع» وتفشل، وتخجل من نفسك ومن إسطنبول وأنت تمتع ناظريك بمشاهد المدينة وكأنك تخون حبيبة.
على أهبة الاستعداد لمغادرة المدينة بين لحظة وأخرى ينبهك صديق إلى أن توقيت ساعتك خاطئ. وأن عليك أن تؤخر الوقت لئلا تخطئ في موعد انطلاقنا العتيد. ثلاثة أيام قضيتها في المدينة ولم تفطن إلى اﻷمر، كأنك لا تريد لنفسك أن تستوطن المكان أو أن تألفه. أنت لا تزال على الدرب ولم تصل إلى وجهتك بعد، فعلام تغير التوقيت؟ لكن هل يصنع الفارق في التوقيت بين مدينتين فارقاً على درب الوصول إلى وجهتك أم أنه لا يزال عليك أن تعد نفسك للكثير مما ما زلت تجهله؟!
————
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *