علي حسن الفواز
حديث تصفير المشكلات السياسية ظل سائدا في الكثير من المحافل الدولية، بوصفه محاولة لترميم الصدع، وإعادة تأهيل الخطاب، ليكون بمستوى اللحظة القابلة، لكن الحديث عما يمكن تسميته بتصفير المشكلات الثقافية، سيكون حتما مثار جدل وخلاف، لأنه يعني نقض التاريخ، ونقض حركة الأجيال والجماعات، ووضع المثقف أمام مغامرة التجاوز، وهي لعبة من الصعب حيازة أدواتها، لأن التصفير قد يعني الحياد، وقد يعني المحو، واستدعاء الغائب، ومكاشفة الماضي المقدس والمدنس، وهذه قضايا إشكالية لا يمكن الركون إلى موقف معياري إزاءها، فضلا عن أن الثقافة العربية لا تؤمن بالحياد والقبول بـ(صناعة المتاحف) لأن الأثر/ الأيقونة/ الصورة/ النصب، ثقافات سلطوية حاكمة، ومُفسّرة، ولأن الحياد يدخل في سياق صناعة المكروه، وأن استحضار شأن الماضي والتاريخ في لحظتنا الحاضرة يعني بقاء سلطته وتفسيراته، وأنه قابل للمكوث والاستدعاء المعرفي والتناصي والجدلي، مثلما أن الحاضر سيظل هشا ومشكوكا، لأن منتجيه خارج أفق المقدس.
فالمتنبي نستعيده وكأنه يجالسنا في المقهى، ونستعيد أبا حيان التوحيدي وكأنه أستاذ للأدب المقارن في الجامعة المجاورة، ونستعيد الجرجاني وكأن النقد ومعنى المعنى مازال صاخبا عند قرطاسه، ونلتمس الخطى إلى ابن رشد لأنه الفقيه والحكيم في مركز البحوث، ونستعيد ابن خلدون لأنه الحافظ السرّي لصراعات البداوة والعصاب والحضر، وهي أمراض مازلنا نعيش بعض مظاهرها الآن، وهكذا تتسع دائرة ضغط الماضي على الرؤوس، حتى لا يملك المثقف المعاصر أي فرصة لمواجهة أزمات عصره، سوى بالعودة إليهم ليطمئن على سلامة تفكيره، وليطمئن إلى أن كتابته خالية من (التصفير) ولكي يناور السلطات التي تحفظ الماضي بوصفه الإطار الصياني لروح الأمة..
الماضي ليس هو التاريخ كاملا، لكن خطورة هذا الماضي أنه تحول إلى تاريخ افتراضي، وإلى قوة استبداد هائلة، وإلى حاكم لا شعوري يملك القوة والمتانة والأصالة، وهذا ما يجعل فاعلية التجديد وسطا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا رجراجا، ومحكوما بمفاهيم لا تستند إلاّ إلى شرعنة ذلك الماضي، أو إلى شرعنة الآخر اللساني والمعرفي والتاريخي، وهذا ما يضع الكتابة الثقافية بشكل خاص أمام مهيمنة سيميائية تفترض الإسناد والتعضيد، وأحيانا التماهي، ليكون (المكتوب) متقدما بوصفه نصا مستوفيا لشروطه البحثية، كما تقول القاعدة الأكاديمية، وأن هامش الخروج من (الصفر) سيكون محفوفا بمخاطر الاجتهاد والتأويل، وهما حُكمان من الصعب التعاطي معهما دونما أسانيد تتناص حتما مع الماضي، حتى يبدو الأمر وكأن الكاتب المعاصر لا دور له تأويل ما كان قد كُتِب.
يقول ليفي شتراوس، وهو إسناد للقول هنا، بأن العقائد الثقافية في الدرس الجامعي، أو في المدرسة، أو في المؤسسة تعتمد على وجود الفاعلية الرمزية، وهي دائما فاعلية إسناد، فلا تُقبَل رسالة الماجستير أو أطروحة الدكتوراه من دون وجود الحدّ الأدنى من الأسانيد، والتنصيصات والاستشهادات، وهو ما يعني وجود الأغطية التي تُعظّم من شأن السند، وتحد من فاعلية الاجتهاد، خاصة إذا تعارضت مع العقل الجامعي/ عقل المشرف أو الأستاذ المُناقش.
التصفير والعدل الثقافي..
لا يعني التصفير بالمعنى السياسي الذي كرر الحديث عنه السيد داود أوغلو رئيس وزراء تركيا، سوى نزع فتائل أزمات الماضي التركي، والرغبة في السيطرة عليها، وتأهيل المؤسسة التركية الجديدة لعلاقات ووقائع جديدة تخدم المصالح القومية والسياسات والسياحة والقيمة الحداثية والعلمانية للدولة. هذا الفهم يمكن قراءته في سياق آخر، وضمن منحى تجديد أدوات البحث، والثقة بالحداثة، وبأسئلتها، ولا شأن لي هنا بـ(المابعديات) التي لا تعدو أن تكون تشظيات على حداثة لم تُنجز بعد- على الأقل عربيا- وهذه الثقة تفترض أصلا الثقة بالعقل، وبفاعليته في التعاطي الممنهج مع أزمات بَدتْ وكأنها جزء من الاستبدادات السياسية والدينية والأيديولوجية التي ورثنا شيفراتها المُرعبة.
عقلنة التصفير الكتابي لحظة فارقة في عقلنة التجاوز، والدخول الحقيقي إلى عصر الحداثة الذي لم ندخله للأسف سوى عبر اللغة! فكل ما حولنا يُذكّرنا بأننا مازلنا أبناء الفحولة الشعرية والسياسية التي تحدث عنها عبد الله الغذامي، وأن أحكامها هي الفيصل، أو هي (الحيل النسقية) المُيسّرة في النظر إلى قضايا ومفاهيم معقدة وذات عمق إشكالي تمسّ الحقوق والحريات والهويات والتعليم والتنمية والعمران والموقف من المرأة وغيرها.
ومن هنا أضع مفهوم (العدل الثقافي) إطارا أخلاقيا لمواجهة هذا الاستبداد، ولكي تكون هناك استشرافات تُعطي للذات المثقفة الفاعلة حريتها في التفكير، وفي تغيير زوايا النظر إلى مفاهيم قارّة في (عادات) الدرس، وفي فضاءات تداول المادة الثقافية، وفي إنتاجها، حتى على مستوى تسجيل الصورة، أو صناعة النص المسرحي والفيلمي، فمازالت مؤسسات الرقابة هي التي تحدد أهليات المطبوع الثقافي، كتابا كان أم فيلما سينمائيا أم عرضا مسرحيا، وهو ما يبغي إدراك خطورة تضخمه كسلطة، أو كمقدس معرفي..
العدل الثقافي هنا هو الوجه الآخر للحرية، ولإعادة النظر في مفاهيم الصناعة الثقافية، وفي النظر إلى أحكام كتابة النص الأدبي المعرفي والفلسفي، لكن هذا لا يعني التموضع في ما يشبه العشوائيات الثقافية، أو في تبديل سلطة المُعلّم والرقيب والمشرف والرئيس بسلطة الفقيه، بقدر ما تعني تغيير الآليات والبحث عن فضاءات للإشباع الداخلي، ووضع المناهج في سياق عملياتي يجسُّ ما في النص، فضلا عن تحفيز العقل المدرسي على تجاوز حدوده الوهمية وطقوسه المهيمنة والإيهامية، وباتجاه تشكيل مجال ثقافي تتسع فيه المساءلة والمحاورة والمجادلة وتحديد وظيفة التاريخ إزاء ما يمكن كتابته، فالكتابة الصفرية ستظل هي المحايدة القاتلة، رغم أن البعض يراها تجوهرا حول الموضوع الأدبي ومادته الشعرية كما يراها البنيويون، وهذا ما يعني ضرورة الانكشاف على أفق أكثر قبولا للتعويض وللتراسل، أفق نحتاج ضرورته الآن وسط غابة الصفريات الحيادية في تجاهلها الموحش لهمومنا التاريخية والسياسية والاقتصادية، وحتى الدينية. ولعل أخطرها مواجهة العنف والإرهاب والتكفير، الذي تحولت علاماته إلى قوة تعويضية مهددِة، وباعثة على الموت، وما حدث أخيرا في باريس، وما يحدث يوميا في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن، يؤكد خطورة النص، بوصفه تعبيرا عن وعي، أو عن تاريخ له قوام الماضي..
السؤال الفانتازي هنا يتمثل في الجهة التي ستقوم بهذه المهمة الخطيرة والفائقة، وهل ستكون خارج منظومة السلطة؟ ومن سيحميها من الجماعات التي وضعت التاريخ/ الماضي في صناديق نصوصها؟
أظن أن الموضوع يعيدنا إلى الدرس مرة أخرى، وإلى طرق التعليم ومناهجه، وإلى نظام الدولة وشرعيته، وهما عتبتان مهمتان لإعادة هيكلة الماضي القهري، والبدء بصناعة (المتحف) التعليمي، مقابل البدء بشرعنة وعي الحداثة بوصفها قدرا، وحقيقةً ووجودا، مثلما هي العمل على التعاطي مع (ثقافوية الميديا) بوصفها القوة العابرة والخلاقة والصانعة الأكثر تأثيرا للرأي العام، ولإشاعة القيم الجديدة وتغيير عادات وأنماط الحياة والتفكير، وبما يساعد على تأهيل قوة نقدية عند الناشئة، وعند صنّاع القرار، ولكي تكون فاعلية التصفير الكتابة تشبه عملية تصفير الأسلحة وتصفير الكاميرات، وبما يضعها عند استعمالات جديدة متجاوزة وحقيقية وقريبة من أسئلة الناس والواقع..
_______
*القدس العربي