حقيقي بما يكفي للموت أن يقضمكَ


أسماء الجزائرية *

خاص ( ثقافات )

ليس مهماً أن أراكَ ، فالحياة تقدم لنا الأفراد غالبا بما يظهرون لا بما يضمرون و إن هذه صورة بائسة لحقيقتها الكاذبة ، حينما ينتهي بنا المطاف إلى احتمال أن هؤلاء الذين يجلسون إلى جوارنا الآن صورا ليست حقيقية عن ما يخفونهم عنا ، نحن لا نكتشف هذا إلا متأخرين و غالبا نكتشفه في اللحظة التي يتضح لنا الأمر على أنه حسابات مغشوشة بالأحرى أننا لسنا ضليعين جيدا كما كنا نظن في قراءة أطوال التفاصيل ، و عرض الحركات و ارتفاع أو انخفاض منسوب الجمال الحقيقي الذي يفتقد للدقة الفعلية لسلم قياسه و هذا يحدث في تفاوت الناس و رؤاهم ، كثيرون يرون بالعين المجردة و آخرون كثر يرون بعين القلب و العقل ، بعين الداخل الغابرة غالبا ، لذلك نحن الذين نتبنى فكرة الوجوه مبكراً نكتشف متأخرين أنه تنقصنا كثيرا خبرة الغوص و اصطياد الكذبات البريئة من على وجه سطح المقبلين معهم في الحياة بعيدا ، و هكذا لا نتحلى بفرصة إنقاذ الذات من الصدمة و إنقاذ الآخر من فقدانه ، فرصة إذا ما تكشفت ذات يوم نجد أننا ساعدنا الآخر على تخطي كذباته و بدا خفيفا مما يريد العدول عنه ، فأكثر من الكذب ليس إرادتك الاعتراف به بل في الاعتراف ذاته ، لهذا يمكن أن تنهار أقوى العلاقات في لحظة بروز ما لم يرضاه كلا الطرفين لكنه لسبب ما حدث . .


نحن لسنا أبرياء تماما ، على الأقل لحظة أن يكذب صديق في أن هذه الصورة له و هذا التفصيل له ،و يعيشُ معنا على حقيقة داخله التامة ، بينما يتخذ الآخر وجوده التام ككيان و يمضي في ردم داخله و إعلاء جدران البهتان بينه و بيننا ، هكذا يخيرنا الواقع بين من أختار أن يكذب في ملامحه و آخر في كيانه هو لا يقدم لكَ الحياة إلا بنكهة الكذب ، فثّمة من لا تتيح له الحياة إلا فرصة واحدة لتكسير قيوده و الدخول في قبول معها إلا من بابها ( الكذبة ) ، و بها يصطنع شيئا يريده لأجل الآخرين يقول دوستويفسكي في رائعته ” الإنسان الصرصار ” : كان من الصعب علي أن أجلس مكتوف اليدين، ولهذا فقد حاولت أن أحطم قيودي، ولكم أن تصدقوا هذا. ولو نظرتم إلى أنفسكم أيها السادة لعرفتم ما أعني، ولتبين لكم صدقه. لقد خلقت لنفسي بعض المغامرات، واصطنعت حياة ما لأنني كنت أريد أن أعيش بأية طريقة. وكم كنت أتضايق وأنزعج بدون سبب يدعو إلى ذلك، وكنت أصطنع ذلك اصطناعاً، عالماً بأنه لا وجود لذلك الضيق في الواقع، وبأنني أخلقه لنفسي خلقاً. وكنت طيلة حياتي أجد في أعماقي دافعاً يدفعني إلى التظاهر بهذه الأكاذيب وقد بلغ بي ذلك أنني لم أعد أستطيع أن أتغلب على هذا الدافع في نفسي . . . بينما يرفض ميشيما ما يفرضه عليه مجتمعه في أن يصبح غير ذاته ، لذلك كان عمله الرائع “اعترافات قناع ” يد لتعرية نفسه امام ذاته و من بعدها أمام القراء من بعده ، أراد أن يظهر بكل “ميشيما ” .

لذلك حينما يسألك صديقٌ و لو بصيغة المزاح كما يريد الكثيرون الاعتراف و العدول عن ما ارتكبوه ( فهذه الصيغة الوحيدة لجص نبض الأمر ) عن لو أنّك اكتشفت ذات يوم أنه كذب عليك في أمر ما ، لا تدعي أنّ الأمر لا يهمك ، فما إن تقول هذا الشيء فانك تقبض يدكَ عن غريق يمد يده ليعود إليك ، و بعدها ستجد نفسك تتساءل مع ذاتك عن ما يخفيه عنك الآخر ؟ و من ثمّة تروادكَ أفكار كثيرة عن أنّه من المتوقع وجود ذلك في هذه العلاقة ، فبعد أن تقرّ بأن الأمر لا يهمك يصبح و في موقف يستدعي للعجب كل اهتمامك و عليكَ الآن أن تتساءل ما إن كنتَ ستوقف في المضي بما تعرفه و لا تعرفه ، أو عليكَ حمايةً لتلك العلاقة من الخسارة أن تجهز نفسك لها مسبقاً حتى تغفر ذلك بكل سلاسة ، فمعرفتنا بوجود الخطأ مسبقاً يخففّ عنا وقعه إن جاء ، إذ يمكنك أن تتصور بأن من تحبهم يكذبون عليكَ في حدث ما فتقوم بالمغفرة المسبقة قبل اكتشاف تلك العثرة لا لشيء سوى أنك تريد مساعدتهم على تخطيها بالاعتراف ، ما لم تَلمس أنّ بتلك الكذبة لا أحد مسّه الضرر أكثر من صاحبها ذاته ، في الأخير هم يصنعون عذابهم بأياديهم و وحدهم يتخبطون فيه منتظرين من يصدق صدقهم في أنّ هذا الذي حدث ليس إلا محاولة أيضا لانتشال ذاتهم إلى حيث ما يريدون ، أو للحفاظ على ما يريدونه ، إنّهم يؤثثون لعالم آخر موازي لما حولهم ، ذلك العالم الضبابي الذي ما إن تسطع عليه شمس الواقع حتى يتلاشى …

نكتشف أحيانا أن هؤلاء ليسوا هؤلاء فعلاً ، على الأقل تلك الوجوه التي آمنا أنها أقنعة ، أنهم يحافظون على ملامح داخلهم ذاتها ، أولائك الذين لا يوفرون أدقّ تفاصيل حياتهم بكل مجرياتها للكتمان ، شفافين بما يكفي لتختفي عنا تفاصيل وجهوهم ، يومها سنعرف كيف جهزنا الآمر لنقول لا تهتم إن وجدنا لهم سبيلاً من جديد ، ففي عديد من الفرص يفتح لك الآخر يداه لتساعده على العودة لكنك تصبح فجأة بلا يدين ، فمنذ أشهر علمت أنّ صديقة لي انتصرت على السرطان أخيراً ، موتاً ، لا يهم ، الأهم أنها انتصرت ، بشهادة سنوات من النضال الشاق ، و رغم أنني كنتُ أظن لوقت قريب أنني أعرف تفاصيل وجهها اكتشفت أنها ليست هي ، يمكنني بأسى أن أقول لها حيث ما كانت :ها أنتِ حقيقية تماما بما كان كافياً للموت أن يقضمك . .

نوقن و لو متأخرين أن البعض يكذبُ عن حياء ، حياء المرض منها، نحن نكذب أيضا لأننا نستحي بأنفسنا أو لننقدنا من تعاطف الآخرين ، خاصة إذا ما كنا يوماً نظن أن لا شيء يمكنه أن ينقص منكَ فما دمت على قيد الحياة فأنتَ هو ذاتُكَ إلى أن تغادر بما تملكه كاملاً ،هذا ما خلصت إليه بيقين تام ، نستحي ربما لأننا لا نملك الشجاعة على الظهور أقل ما كنا عليه أو أقلّ ما توقع عنا الآخرون ، أو لأننا لا نريد أن نبدو حزينين بما لا يبهج ما حولنا ، أو لأن الحياة أرغمتنا على إتباعها ، أو لأننا أرغمنا الحياة على إتباعنا ، أو لأننا لا نستطيع العيش دون أن نكذب بكل صدق . .

قد يختفي الإنسان فجأة من حياتك لكنك تعلم بأنه يحيى في مكان ما ، و هذا يعزيك و ربما تتصور أنه أنشأ نافذة مزيفة و يتتبع خطاك في غرفتك خطوة خطوة و حركة حركة ، ربما رآك عديدا عارياً من كل شيء إلا من البكاء ، ومرات كثيرة أراد أن يضمّكَ بفشلكَ الذي عرِّفتَ به ، فشهرتك تزداد أيضا مع كل فشل كما قال يوما برناد شو ، و غالباً ربما كان هو من يخفي أغراضكَ من مكانها ليعبث معكَ و يجلس على الزاوية يضحكه غضبك ، و ربما لسبب ما قدريّ قد تجمعكما صدفة أخرى في هذا الكون و تعيشا على فرصة أنه يوما سيحدثُ و تعودا ، لكن فكرة أنهم تركوا الحياة بكاملها و لا صدفة في الغيب تنتظركم تجعلك تشدّ الأيام الى الخلف بينما تتراشقك طعنات جبارة بـ لماذا ، متى ، أين ، كيف ، و الطعنة الغائرة هي ” لو ” ، وحدها تلك الكذبة كانت قيدا و ذاتها التحرر منه ، بينما يحاول الشخص الدخول إلى العالم من باب كذبة ينسى أنها هي ذاتها ستتمكن منه .. لهذا نجد أنفسنا عند منعرج من اليقين أننا نُفضل على الكذب في حقيقة داخلك الكذب في خُلقِ بينما تكون صادقاً في أخلاق ما تقوم به . . نعم نعزي أنفسنا مع الصادقين داخلياً لا جسدياً

رغم هذا متعارف أن العلاقات لا تنتصر بكثرة الصدق كما لا تنتصر لكثرة الكذب ، ففشلنا في مزج الجرعات المناسبة لأجل الاحتفاظ بقيمتها هو أيضا نتيجة لما ظننا كذباً أننا نجيده ، أولئكَ الذين خلدهم الفشل لا يمكنُ للزيف أن يمسح تفاصيلهم ، كالذين خلدهم الحب تماما ، فهم ذاتهم من لم يستطيعوا لأجل الحصول عليه شيئا سوى الفشل ، فالحب يخلد العشاق الفاشلين في البقاء أبدا فيه و هكذا يفعل بـ الأصدقاء كذلك . . لهذا فلربما تفشل الكثير من الصداقات أيضاً فقط لتُخلدّ . . . و تصبح حقيقية بما يكفي للموت أن يلتهمها . .

* كاتبة من الجزائر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *