*سوزان علي
صندوق مغلق تحت سرير جدتها. حاولت ذات يوم فتحه لكن أخاها نهرها. رأت قبراً على طريق الغابة وسألت كيف يمكن لصاحب أن يعود، أخيراً سألت الجدة ماذا في الصندوق قالت لها الكفن، إنه ثوب جديد للموت
كانت الحواس بيضاء، بيضاء بما يكفي ليفكر الخلود بأن السعادة على الضفة الأخرى، ولتنام في جوفها كائنات طفولتك سنين طويلة، تتذكر ريشة عصفور سقطت مع غصن شجرة داركم أول الخريف، بل تتذكر عدد النقرات التي نقرها المطر على شباك غرفتك مقاطعاً نظرتك إلى أعضاء جسدك الباردة، تهمس أحيانا بخيالات غريبة وأنت تصافح جارك، تلمح فوق وجهك في المرآة وجهاً مألوفاً آخر، شيء ما يلمع في عينيك، قد يكون زورقك الورقي في بركة الحديقة، أو دفتر ديون أهلك المرمي فوق الثلاجة، الطبيعة أخذت في ما مضى قيلولة طويلة قرب حواسك، لا تسألني إذاً أيها القلق أين ولدتُ؟
من فرط التفاصيل حولي، خلقتُ بعينين قديمتين، جاءتا تتذكران العالم في دمعي، عدسة تصوير دقيقة، عرفتُ هذا في عمر الثلاثين، ألبوم صور كامل أمامي، كان الله بين شجر الحور يبتسم لي، الآن أبحث عن الله في أي ابتسامة أراها.
بيت جيراننا الأغنياء الذين كانوا يملكون تلفازاً، يتراءى لي أثاث ذاك البيت حتى اليوم بممراته الطويلة وورق جدرانه المزهر على شكل صورة التقطت بالأبيض والأسود، الطبيعة لمست حزني وشهوتي في ذاك الوقت، لم يكن لدينا تلفاز، الطبيعة من صور هذا المشهد لم تكن عيني، لم يساعدكَ أحد في ذاك الماضي، لتكون أنت سوى أصابع الطبيعة الخفية.
تعرفت على الموت في صندوق حديدي أحمر، وجدته طافياً في العتمة تحيط بخوفه سلال التفاح والعنب الجبلي، تحت سرير جدتي.
كانت أمي شاحبة ونعاسي الذي تأخذه من يديه صباحاً إلى دار جدتي شاحب أيضاً، كنا نمضي أوقاتنا أنا وأخي عندها ريثما تعود أمي من عملها، أبي مسافر دوماً في عمله خارج المدينة، لذلك كانت طفولتي مع امرأة في السبعين من عمرها، تلك القرية الآمنة بخرافاتها آخر الجبال، تنام وبيوتها مفتوحة تحت ضوء القمر، وكنتُ قربها أجثو؛ كذاك البيت المضيء الذي نلمحه بسرعة من شباك القطار ونحسده بسرعة أيضاً.
دارها المسوّر بحديقة واسعة، حيث أشجار الرمان والتوت والورد الجوري والياسمين والريحان وكثير من الإلهات، تتدلى خارج السياج، ما يسمح للعشاق بقطف الزهور وشمّها، وللمشيعين بقطف الزهور ورميها فوق النعش أو حملها إلى القبر، كان في آخر الشارع مقبرة صغيرة تحطيها البيوت العشوائية العارية التي بنيت بموت وسكنت بموت، حتى تكاد لا تفرقها عن القبور في ازدحامها ولونها الباهت، وقريباً من هذا العدم على الجهة الأخرى، كان العبث يقضم تفاحته ويغني، حيث صنع شباب الحي ملعباً لكرة القدم، أحياناً كثيرة كنت أشاهد جمهوراً من المشجعين يجثون فوق القبور يدخنون مع هتافهم وتصفيقهم مثبتين زجاجات البيرة بين أقدامهم، أحياناً أخرى كنتُ أرى جماعات غريبة متشحة بالسواد تشعل بخوراً قرب أحد القبور، تترك دموعها وتمضي، أما بالنسبة إلينا نحن الصغار فكانت لعبتنا المفضّلة أن ندق الأعشاب البرية جيدا بحجرٍ حاد، حتى تغدو مسحوقاً أخضر، نضعها في الحفرة المدورة فوق القبر المخصصة للبخور والريحان والشموع، كنا نريد أن يأكل الميت طعامنا في الليل، حتى أن رفيقتي لم تتردد مرة في البحث عن علبة (سردين) مرمية مع أشياء مهملة كثيرة على طرفي الطريق، كي تضع فيها طبختها العشبية وتفاخر بابتكارها الجديد.
زهوراً للمقبرة
سألت جدتي: لماذا يريدون زهوراً للمقبرة؟ ورفاقي في اليوم التالي يقطفونها ويهربون بها، لقد سرق أخ رفيقتي (سمر) بالأمس باقة كبيرة، وأخذها إلى معلّمته في المدرسة، لماذا يقطفون لك زهورك ويرمونها هناك؟ هل لنلعب بها؟! ربما.
جدتي لم تجب حينها بل بكت كثيراً لأن آخر ريحانة قُطفت كانت لابنها، خالي صار ضيف المقبرة الجديد… لا حديقة بعد الآن ولا زهور للجنازات المارّة، ولا طبخة عشبية من صنع يدي أضعها فوق قبر ما.
إلى أين ذهب خالي؟ وهو يعرف أننا نلعب في المقبرة كل يوم؟ وإلى متى سيبقى هناك؟ هل سيأتي في الليل إلينا كما قالت لي رفيقتي؟ هل مات نجمه في السماء؟ ذاك النجم كان يخفق بسرعة، تقول جدتي إن لكل إنسان نجماً، وعندما يموت صديقه يرجف النجم وينطفئ.
انتقلنا لألعاب من نوع آخر في بيت جدتي، علينا أن نبتكر أنا وأخي ألعاباً منزلية أكثر أُنساً وألفة، مخافة غضب جدي، حياة جدي لفائف من التبغ العربي وكلمتان اثنتان فقط يرددهما بدل صباح الخير وتصبحون على خير: (الحياة فانية)، لقد لعبتُ وضحكتُ وسخرتُ وركضتُ وتعلمتُ وكبرتُ على مقطع واحد بنغمة واحدة لا تخطئ: (الحياة فانية)، كنت أفهمها كرتونياً، أي أن الحياة «فاضية» بالعامية، الحياة هي البيت الفارغ من تفاصيل مزدحمة نراها في بيوت الآخرين، ولا نجد لها أثراً في بيت جدّي.
فانية
كيف لي أن أفهم معنى كلمة مثل (فانية)، ربما زهور النرجس التي اشتريتها اليوم من بائع جوال، أخذتني إلى ذاك المقطع، وضعت وجهها صوب النافذة، وكلما التفت إلى انحنائها الحزين صوب الضوء أسمعها تهمس: (الحياة فانية).
مرة كنا نلعب بكرة مضرب، بللناها جيداً بالماء كي لا تقفز عالياً وتكسر شيئاً ما، كما فعلت في المرة الماضية، عندها لم ننتهي من تأنيب جدتي إلا بعد أشهر على الحادثة، لقد كسرنا لها صورة مع أمها منذ زمن قديم بين صخور الوادي.
ضرب أخي بقوة الكرة صوبي، صرتُ أتبعها بعيني لأرى أين ستستقر، لقد فلتت مني وليس في وسعي سوى انتظار جسدها أن يهدأ في ركن ما كي أحضرها مجدداً، تدحرجت بهدوء حتى اختفت تحت سرير جدتي، أخفضت رأسي ورفعت الشرشف المطرز الذي كان يغطي أطراف السرير، ودخلت إلى تلك العتمة بحثاً عن كرتي الصغيرة، وجدت صندوقاً حديدياً صدئاً، بلون أحمر داكن، بقربه سلة تفاح مغطاة بخرقة بيضاء كبيرة، مددتُ يدي وأخذتُ تفاحة ووضعتها في جيبي، رحت أحاول فتح الصندوق الذي كان مغلقاً بإحكام، أي صندوق مقفل بالنسبة للأطفال هو كنز، شكل الصندوق المزخرف وحجمه الكبير جعلاني أشعر بأنني فوق جزيرة الكنز، لماذا هذا الحذر في قفله وحجبه عنا إن لم يكن كنزاً حقيقياً؟
لم يسبق لنا أن رأيناه من قبل، خرجت من الجزيرة بهدوء بسبب صراخ أخي، حضنت الكرة وسبحتُ إلى الخارج، كنت حذرة مثل جدتي أن لا أبوح بشيء عن هذا الكنز حتى لا يستولي عليه سواي.
عندما عدنا إلى بيتنا سارعتُ إلى غرفة أبي وأمي، هل يملكان صندوقاً أيضاً تحت سريرهما؟ لم يكن في كل بيت أزوره برفقة أهلي أي شيء يشبه ذاك الصندوق تحت السرير.
الصندوق
في ذلك الشتاء انتقلنا إلى بيت آخر، تغير الطريق والبيت ودخلنا المدرسة، وصرنا بعيدين عن جدتي أكثر، لكن بالقرب من طريق المدرسة كانت ترقد مقبرة عالية مسورة بأشجار الصنوبر والسرو. لم تكن كمقبرة الحي، هذه مقبرة ثرية فخمة أسوارها عالية وبابها كباب المدرسة الأسود، وقربه يجلس حارس يتفقد الأشجار والزوار والموتى، غريب كيف لهم أن يسوّروا ويحرسوا الموت هكذا، ألم يفكروا قليلاً بملل الموتى؟
كنتُ أعثر في رحلاتي الكثيرة إلى الجبال والغابات على قبور بالصدفة، حدث أن دخلت غابة ذات يوم في إحدى نزهاتنا أنا وأهلي، رأيت قبراً وحيداً تسلقتْ فوق رخامه جذور شجرة معمرة، كان الشوك يغطي وجهه لدرجة أنه لم يكن بمقدوري أن أقرأ الشاهدة، نادتني أمي كي لا أبتعد وأضيع، سألتها: لماذا لم يدفن في مقبرة الحي عند جدتي أو تلك التي على طريق مدرستنا؟
ربما تكون قطعة الأرض هذه ملكاً له، أو ربما كانت هذه وصيته، قالت أمي.
ولكن إن نهض في الليل فكيف سيعود إلى أهله؟
الميت لا ينسى طريق العودة أبدا. قفلت أمي قصيدتها وحلَّ الصمت.
لقد عاملتْ حيرتي بشعر حقيقي، من دون أن تدري، نعم كل شيء يعود إلى أهله يوماً ما، الجسد إلى التراب والروح تعرف الدرب إلى البيت.
ذات يوم عدتُ من المدرسة متعبة وزرت جدتي، كانت تجلس فوق السرير تمشط شعرها فوق خرقة بيضاء ممددة قربها، جلست على العتبة أرخي ظهري إلى الحائط وأسند الباب بقدمي كي لا يغلقه الهواء.
ماذا تخبئين في ذاك الصندوق الأحمر تحت السرير؟ سألتُ جدتي فجأة.
رمقتني قليلاً ثم أزالت خصل شعرها العالق بأسنان المشط وقالت بصوت رخيم يشبه نغمة (الحياة فانية): إنه الكفن.
الكفن!! لم يسبق لي أن سمعت هذه الكلمة.
وما هو الكفن؟
نفضت المشط جيداً ووضعته تحت الوسادة وهي تقول: ثيابي وأغراضي عندما أموت؟
ولماذا تخبئينه وتغلقين عليه بإحكام هكذا؟
كفن الميت مثل الميت، يجب ألا يراه أحد.
هل تملك أمي واحدا مثله؟
ضحكت جدتي ولم تنبس بحرف واحد.
أريد أن أعرف هل يلبسون ثياباً جديدة للموت؟
عندما تكبرين ستعرفين.
لماذا تحضرين ثيابك منذ الآن هل ستذهبين مثل خالي؟
لا أحد يعلم عن الموت غير الله، لكن لم يشتر لي أحد ثياباً في حياتي، كي أدعه يشتري لي ثياباً عندما أموت.
الكفن: هو صندوق حديدي أحمر، مطرز على أطرافه بخطوط ذهبية ناعمة، يوضع تحت السرير، بين سلال الفواكه وجيب الخيطان وزجاجات ماء الورد البلدي، يمنع أحد من فتحه أو مسه، لا يمتلكه كل الناس، يقتنيه أولئك الين يشبهون خيوط الضوء فوق رؤوس الشجر، جدتي لا تعرف القراءة والكتابة، لكنها علّمتني الموت جيداً وأنا أنسل خصل شعري من بين أسنان المشط، ثم وبحركة خفيفة أمسح المشط بيدي وأعيده إلى تحت الوسادة.
_______
*السفير الثقافي