*سلطان الحويطي
خاص ( ثقافات )
لو أن للموت استثنائية
لقلت :
كيف لهذا الرجل الذي شَرح الموت وعرف خباياه أن يموت !!
يقول : ” الموت لا يحفل بمشاعرنا هو فقط يؤدي مهمة ويرحل “
“عبدالرحمن منيف” كان ينظر للموت وهو يقتنص رفاق دربه واحدنا تلو الآخر بعين الغبن والقهر لذا أراد أن يثور حتى في وجه الموت .. أراد أن يقول له لا تستطيع هزيمتنا فقرر أن يستعيد رفاقه ويحررهم من قبضه الموت وقد استحضر تفاصيلهم ولحظاتهم في كتاب اسماه لوعه الغياب.
وكأنه يقول بالكتابة وحدها نستطيع هزيمة الموت !!
الحياة في حد ذاتها لم تكن انتصار له
فقد جاء من الظلام وأشعل لنا شموع الحرية وواصل طريقة للظلام !!
ترجل منيف عن جواد الثورة وأعتزل معركة الحياة بكل ما فيها ورغم ذلك ما تزال رماح كلماته تعين من بقي في ساحة الحرب .
ولكن أي لوعه تركها منيف وهو يرافق الموت لمثواه الأخير كيف خضع له ورافقه بكل طواعية غير آبه بنا !!.
وبعد أن اكتويت كغيري بلوعة غياب هذا العملاق قررت أن أمارس دوره وهو سيمارس دور الغائبين في محاوله أن انتصر له وأنا اعلم أن الموت سيهزمني كما هزمه
عندما كان “عبدالرحمن منيف “طالباً في كليه الحقوق ببغداد في العام ١٩٥٢م كان يمر بعد نهاية المحاضرات هو وبعض زملائه على مقهى البرازيلية ليستمع لأحاديث المثقفين بقياده “جبرا إبراهيم جبرا” كان يجلس على طاوله بالجوار ويتساءل هل يستطيع هؤلاء الحالمين تغيير الوضع العربي !! هل يستطيع الأدب مقارعه السياسة
” كنا نلقي نظرات طويلة نتأمل نسمع وكنا نميز بين الجالسين :السياب والبياتي وجواد سليم وأيضا محيي الدين إسماعيل وكاظم جواد والحيدري وحسين مراد .. ووسط هذه المجموعة جبرا .”
لم تمضي شهور بسيطة حتى تم توقيع حلف بغداد الذي تلته مظاهرات صاخبة ولم يمضي وقت طويل حتى طرد منيف من العراق لممارسته العمل السياسي ولكن هذه ألازمه الخانقة وما أفرزته من قتل وكبت واعتقالات وتعذيب تمخضت عن حركة أدبية جديدة تشكل نوع من أنواع الرفض والاحتجاج .
وبعد سنوات قليلة كان يرأس منيف مجموعه من الأدباء يقررون رسم وجه آخر للوطن العربي. وجه بلا تجاعيد من الظلم ووطن بلا خرائط وهو العربي الخالص بورقه مرور تحرره من الجنسيات تحرر ه من القيود . أراد أن يقسم جسده بالتساوي بين بقاع الوطن الكبير . وعندما كانت الحرية هي الأخرى تناضل أيضا في البحث عن مكان لها كان منيف وطنها ومستقرها .
جاء منيف في أوضاع حرجه كان يمر بها الوطن العربي الكبير فكانت النكبة وحرب لبنان جاء منيف في زمن البؤس العربي في زمن الهزيمة في زمن النفط فكتب للكادحين كتب عن الأوضاع السياسية وعن المتغيرات التي تلت اكتشاف النفط كتب هموم المواطن العربي البسيط ونجح بكل اقتدار في جعل الأدب محرك حقيقي للثورة .
بعد نكبه حزيران كان منيف يبحث ككل مثقفي عصره عما يقول عن انتشال الشخصية العربية من براثن الهزيمة إلا أن قوله تأخر فوجد في مسرح “سعد الله ونوس” متنفسه يقول عن هذا المسرح :”ان مسرح سعدالله ونوس ليس مسرحا سياسيا بالمعنى الضيق أي لا يهدف إلي الايدولوجيا أو التحريض المباشر قد يبرز الهم السياسي في هذا المسرح ولكنه بهدف خلق وعي جديد إذ يريدنا أن نرى الحقائق عارية وأن نعرف الأسباب العميقة التي تجعل الإنسان تعيسا مقهورا مستغلا “
كتب أولى رواياته عام 1973 م وهي “الأشجار واغتيال مرزوق” عرى فيها الحقائق سن كلماته وجهها لنحور الظالمين تحدث عن مشكله الحصول على جواز سفر وعن هموم المثقفين والبسطاء وتلا هذه الرواية كثير من الروايات المهمة ولعل أبرزها رواية “شرق المتوسط ” التي أسس بها ما يعرف بأدب السجون.
في آخر سنوات عمره كان كل همه إعادة الكلمة لقوتها وقد بعث رسائل لأصدقائه يحثهم ويحرضهم على هذه المهمة التي قادها منيف في وقت سابق بكل اقتدار .
رحل “عبدالرحمن منيف” بعد عمر حافل بالإبداع وترك لنا أرث ثقافي وأدبي وفكري حافلا لامس هموم المواطن العربي كيف لا وهو يعد من أهم رموز الأدب العربي وقد ترجمت رواياته إلي عدت لغات .
رحل منيف وعاد ضمير ألامه مره أخرى للسبات العميق رحل منيف وترك كلماته ترقبنا من بعيد تبشرا بصباحات جميله قادمة فكلماته الصادقة ما تزال حيه ماتزال تدوي في وجه القمع والقهر !!
رحل منيف وترك لوعه غيابه تكوي قلوبنا وتحرق وجداننا ونحن الذين لم يجمعنا به مكان ولازمان ولكن جمعنا هم واحد مع هذا العبقري الذي يقول ليسلينا ويصبرنا وهو يشعر بلوعتنا بلا شك :
“الموت إذا تدخل لا يترك أي أمل أو أي رجاء انه يتدخل ليحسم الأمر وربما كل شيء . يأتي عاصفا قاسيا فيبهت الإنسان يصدق ولا يصدق لكنه يصبح الحقيقة الكلية وربما الوحيدة لأنه لا يعرف المزاح ولا يحفل بعواطف البشر فهو يقوم بمهمته ويمضي لان لديه الكثير من المهمات التي لا تحتمل التأخير .