*بسمة النسور
المشكلة الأساسية التي قد تبرز في سياق أي علاقة إنسانية هي العجز عن فهم الآخر، وانعدام آلية حوار بسيطة، قائمة على مبدأ الاحترام، ما يؤدي، في نهاية الأمر، بعلاقات كثيرة إلى القطيعة التامة. من هنا، يحتاج الواحد منا إلى لحظة مكاشفة مع الذات، يُخضع نفسه خلالها إلى تحقيق صارم، على سبيل التخفف مما اقترفت يداه في حق الآخرين. هي لحظة مفصلية من دون شك، وتتطلب أقصى درجات الصدق والشجاعة والتمتع بفضيلة الاعتراف والإقرار بالعيوب، قبل الاحتفال بالمزايا وترويجها، وفق انحياز ننجر إليه بشكل فطري، كوسيلة دفاع نشهرها في مواجهة الآخرين. الحقيقة، حتى لو كانت جارحة، تظل أكثر سطوعاً من عين الشمس التي لا يمكن لأي غربال أن يخفي معالمها. وحين نظن، واهمين، أننا نجحنا في استغفال من حولنا وتضليلهم بمزايا ندّعيها، ونطرح أنفسنا أسوياء متوازنين متصالحين مع ذواتنا، ومع الآخرين، في سبيل الحصول على إقرار باستحقاقنا الاحترام والقبول ضمن الجماعة، فإن الخديعة لن تنطلي على النفس غير المطمئنة التي ينبغي لها أن تظل لوّامة على الدوام. من باب الرقابة الذاتية، وحين “نطبطب” ونتغاضى عن أخطائنا، فإننا، بالضرورة، سوف نستمر في اقترافها، ما يترتب عليه إلحاق الأذى بالآخرين، ولا يكفي، والحالة هذه، القول إن ذلك لم يكن متعمداً، وإن النيات حسنة؛ فالأذى حاصل في جميع الأحوال، حين يقترف صديقٌ ما الكذب، وبغض النظر عن حجم تلك الكذبة أو لونها، حتى لو افترضنا أنها شديدة البياض، وحين ينتهك الصديق خصوصية صديقه، ويبيح لنفسه بتجاوز المساحة النفسية المقترحة في العلاقة، ويعمل على نهب روحه، واحتلال فضائه باعتبارها مشاعاً، ولا يتوانى عن استغابته، والخوض في تفاصيل حياته، من دون وجه حق، بذريعة الاكتراث الذي يصل، في حالات كثيرة، إلى درجة الاستحواذ المرضية، فإن سؤال علاقة الصداقة حريٌّ بأن يطرح من أساسه.
يحق للطرف المجني عليه، والحالة هذه، طرح ذلك السؤال، والوصول إلى النتيجة التي تتناسب ومقدار الجرح الذي تسبب به من خان الملح، فكذب ونافق وأضمر الأذى. ثمة نموذج إنساني بالغ الندرة، يمتلك مهارات العفو، حتى لو عزّت المقدرة، ويتمكّن من تجاوز مشاعر الخذلان، بمن كان يعول عليهم سنداً للروح في لحظات إعيائها. وهناك من هو غير قادر على كل ذلك الكرم، غير أنه يعف عن اللوم والعتاب، فيمارس حق الانسحاب والنأي، مترفعاً عن الخوض في التفاصيل التي سوف تبدو بلا قيمة، إزاء السؤال الجوهري بشأن جدوى العلاقة نفسها، ليصل حتما إلى نتيجة مفادها بأن العزلة خيارٌ أكثر رأفة! وتظل العلاقات الإنسانية، على اختلاف مسمياتها، منطقة شائكة، يتطلب إتقانها، توفر شروط صعبة، لكن ليست تعجيزية، لأنها قائمة أساساً على مبدأ تضارب الأمزجة، وتنافرها أحياناً؛ فالانخراط في أي علاقة يتطلب، من حيث المبدأ، التنازل، كاختيار حر، عن جزء من الروح، وإفساح حيزٍ للآخر، ليقيم في هذا الحيز المجترح، حاجة إنسانية مشتركة، لا يمكن إنكارها، وهي، مثل أي تجربة، عرضة للصواب والخطأ والاستدراك.
مهما مرّ بنا العمر، وتوّهمنا بلوغنا درجة كافية من النضج والحكمة، فإن الحياة قادرة على مفاجأتنا، وتلقيننا أقسى الدروس، وأكثرها إحداثا للصدمة؛ بنماذج قبيحة ملفقة من البشر. إذاً، لنحاول الاعتراف، في لحظة المكاشفة المقترحة هذه، بمدى قصورنا، وبفداحة الأخطاء التي نرتكبها أحياناً، حين نندفع في علاقات غير مدروسة، تجعلنا نعلي من توقعاتنا من الآخرين. كذلك لا بد من مراقبة سلوكياتنا، هل نحن أوفياء فعلاً، هل نحفظ غيبة الصديق، هل نحمي خصوصيته، هل قلوبنا صافيةٌ، كما نزعم، خاليةٌ من أعراض الغيرة والحسد الدفينة، وهل نملك جرأة الاعتراف بنقاط الضعف، وكم التناقض والالتباس الذي يكتنف شخصياتنا، والعمل على التخلص منها، خطواتٍ ضرورية للوصول إلى درجة من التصالح مع الذات، ومع الآخر، تكفينا شر الجفاء.
_______
*العربي الجديد