” بارنيز”


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
عند الثانية ليلا، كان رقّاص “الساعة” التراثية قد توقف تماما، وراح يتثاءب.
اعتدنا الجلوس – ثلاثتنا – تحت لافتة “البانر” المضاءة، وكنّا على مرمى نورها الباهت نلمح أرصفة خلفية، خالية، عابسة طوال الوقت، وجدران قاتمة، تحدّق فينا بامتعاض شديد. 
طاولات ومقاعد “بلاستيكية” من حولنا، كانت تنزلق على أرض رخامية لزجة، تظللها فسحة سماوية كئيبة، مضافة إلى ركاكة المقهى الخريفي …! 
“تغلق الصحراء أبوابها باكراً… فلا تنسَ شيئا قبل أن تغادر”.
اللوحة الزجاجية المكتوبة بألوان مطفأة عند مدخله الأمامي، تستحوذ على فضولنا أنا ورفيقي، طوال الوقت. مثل أغلبية المرتادين، وتحديدا منذ ذلك الغياب المفاجيء للأغلبية، والذي كان من بينهم رفيقنا الثالث.
مع الوقت، لم نعد نعرف، هل كانت تشير إلى شيء ما يهمنا، أم لا… بالأحرى ما الذي كانت تعنيه عندما سقطت فجأة، بيننا وبين “السّاعة”… في تلك الأمسية؟ 
في أول الأمسية، وعبر شاشة التلفاز المثبتة على الحائط المقابل للساعة … قالوا: “بأن الصحاري قد أطبقت تماما، على كل الجهات”. لكن أحدا منهم لم يَعُدْ ليخبرنا بما جرى!
اعترانا فتور على وقع الخبر، سقط بيننا، لكن، بلا قلق فعلي على رفيقنا الذي تأخر.
***
ثلاثتنا… لم نكن نصغي أو نهتم لرقّاص “الساعة” قبل تلك الأمسية، وقبل تلك اللافتة الغامضة، تحديدا.
بالأحرى لم نكن نأبه لتعلّقهِ المتعالي بعنق الحائط، بتاتا.
بعد ذلك النزوح وتحت رهبة الغياب الجماعي، كان قد تغيّر، غلب على تأرجحه المقيت وقار الصمت.
– لا عليكَ، فلن تقوى كلّ كثبانها الخبيثة على انتزاع روح واحدة من أرواحه السبعة.
قلنا للنادل الأفريقي الودود في مرح. 
مضى بارتياح وهو يؤكد لنا: حتما سيرجع، لكن الأهم، أن لا تنسيا شيئاً هنا… هذا رجاء.
****
على الجانب الآخر، لم يعد أحد من الغابات ليخبرنا بشيء، قالوا بأنها احترقت تماما من قلّة الماء، أما الصحاري التي انقلبت على نفسها منذ عام، فقد سدّت في وجوه الناس كل الجهات. 
كان ذلك التلقين الممل، يسيل على شريط الشّاشة المثبتة، ذاتها، ببطء، منذ عام ونيّف، ولا زال يحكي بحذر حول إنسداد محتمل للمدى… دون تأكيد!
النادل الإفريقي الودود، بدا مهموما وهو يبتعد متثاقلا عن الشّاشة، وعصبيا أكثر مما يجب وهو يكرر أمام الجميع: عليكم بالرحيل باكرا…!
إلتفت نحوي، تأمل المقعدين الفارغين أمامي، حول الطاولة الأقرب للأرصفة الخلفية العابسة، وهي تنزلق بي وحدي تحت لافتة “البانر” المضاءة، وقال في ود: حتما سيرجعان، لكن الأهم أن لا تنسَ شيئا هنا قبل أن تغادر!
****
قبل ذلك بأشهر، لمْ يخشَ رفيقي الآخر من مغبّة الأنتظار، أو ييأس، لكنه اختار شيئاً.
– حتى الطيور على حواف النوافذ من حقها أن ترحل، وأن تعود، فقط هي الصحراء
لا أمان لها، تفتح ذراعيها للراحلين بترف، عند اللجوء، ثم تدير لهم ظهرها بعد يوم وليلة…!
– إذاً إلى أين؟
– إلى الغابات. رد حالماً، ثم بصق مخاوفه نحو عتمة الشارع الخلفي للمقهى، ومن حولي، وفوق رقّاص “الساعة” المتأرجح دون وقت فعلي… ومضى. 
****
بعد سنوات طويلة، تذّكرتُ شيئا ربما ظلّ هناك. 
كان كل شيء قد تبدّل، وأنا أعبر عتمة الشّارع الخلفي.
لافتة ” البانر” المضاءة، تطل بإسم جديد للمكان، ” بارنيز كافيه “، تحتها تماما، سكنت ظلال “برندات” عديدة لبيوت لم تعد عابسة، سقطت فوق ثلاثة مقاعد فارغة، ونادل وحيد بملامح شرق أسيوية، غريبة!
السّاعة برقاصها القديم رحلت، وحل مكانها قفص ذهبي فارغ.
شريط الشّاشة المثبتة، ذاتها، لا زال يسيل ببطء، ويحكي بحذرعن صحاري وغابات لم يرجع منها أحد، وعن سرّ جديد وغامض، لواحة تلاشت تماما تحت قبّة الأقمار الصناعية منذ حين…!
تلك اللحظة، أيقنت، بأننا نسينا شيئا على تلك الطاولة،
سقط منّا، ولم يكنسه النادل الإفريقي، ربما عن عمد، 
غير الكلام، وغير هذه النظرات المرحة، غير الأحاديث المرتجلة، ومنفضة السجائر،
وقارورات الشراب المرتجعة. ربما فترات الصمت القصيرة، كيف نسيناها هناك، وأدرنا ظهرنا للمكان؟
النادل الجديد محتال… أفرغ كل شيء في سلة الانتظار،
وقال – ربما قال – لن يرجع منهم أحد.
______________
*قاص أردني. 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *